السبت 2024-12-14 06:38 ص

كتابة المعنى في رواية السويسري توماس هيرليمان

01:33 م

الوكيل - تتطلب الترجمة الأدبية، بشكل خاص، حساً لغوياً ونقدياً عميقاً للنص وتعقيداته وفك طلاسمه ونكراناً للذات والانفتاح على الآخر، على مستوى اللغة والفكر.

ومن هنا يصبح للكلمة المترجمة أو المعنى والفكرة والدلالة بُعد سحري جمالي يتجاوز بعدها الدلالي والرمزي، وعليه يمكننا القول أيضاً ان هدف أو غرض المترجم/الترجمة بالدرجة الأولى هو الصدق الفني واللغوي والجمالي فيما ينقله ولكن، ثمة مشكلة أخرى تتعلق في كون اللغة تعكس أحياناً رؤية محددة عن المعنى والفكرة، والمترجم أحياناً سيحيد عن النص الأصلي، ولكن رغماً عنه إذن الترجمة، في هكذا حالات، هي إعادة كتابة النص والامتثال لطبيعة لغة جديدة تعبر عن رؤية مختلفة .
1
الاقتراب من المعنى المترجم ..
الاقتراب من المعنى المترجم، في رواية الآنسة شتارك للكاتب السويسري توماس هيرليمان، يحمل في طياته معنى جديداً ومختلفاً للكتابة والترجمة معاً، كتابة المعنى متحررة من وظيفتها التقليدية، أي من كونها أداة نوعية بالمعنى التقليدي للكلمة لتصبح جزءاً من وعي يتكون، أي جزءاً من الواقع الروائي في أزمنته المتعددة والمتداخلة والمتجاورة والمتفارقة، من هنا نعيد اكتشاف المعنى المترجم أو كتابته، فهذا النص الروائي ليس مجرد إيهامات العلاقة بين الواقع والمتخيل أو بين التجربة والسيرة بمعنى الكاتب يروي والراوي هو البطل وهكذا، الكتابة الروائية بهذا المعنى لا تعود خبراً عن الواقع والتاريخ والتجربة أو السيرة بل تصبح بحثاً عنه، الخبر أو الحدث يفترض الجاهز الذي يقع خارج الكتابة بينما البحث والتقصي والتجربة تفترض صنع الخبر/الحدث في سياق صنع الواقع الروائي وفهمه وإعادة تفكيكه وتركيبه وفق رؤية معرفية صارمة مجردة، فالكتابة الروائية المغايرة لا تقدم الشكل الرمزي للمعنى أو الحدث بل الانعكاس المعرفي الذي يحيط بالاحداث والوقائع والأمكنة وبهذا لا تتحول الكتابة إلى تكرار ممل لا يقول شيئاً بل تعود إلى المعرفة المحضة واللغة الفنية المغايرة المحملة بالرموز والدلالات .
هذا الثالوث: الشخصيات الروائية، زمانها، مكانها، مجرداً ومشخصاً هو ما تقدمه رواية توماس هيرليمان، وبتحديد أدق فإن الرواية تقدم العلاقة بين أركان هذا المثلث المتساوي الأضلاع في المستويين العام والخاص، المجرد والمشخّص، والرواية عموماً هي التي تقدم العلاقة الجدلية بين أضلاع هذا المثلث، وبين مستوييه المشار إليهما، مستوى التجريد، ومستوى التشخيص، أما عندما تقتصر على مستوى واحد، هو مستوى التشخيص، كأن تقدم حدثاً أو تجربة أو تاريخاً أو عائلة وزمناً، ودون أن تستطيع الارتفاع إلى التعميم والتجريد فإنها تتحول إلى مجرد تسجيل أو انطباعات إنشائية عابرة، وتقع في السطحية، لأنها تكون قد أخفقت في تقديم مفهوم عن العالم والتجربة أو رؤية تستطيع أن تخترق زمانها ومكانها لتصل إلى الماضي والمستقبل من خلال تراكمات الحاضر وتداعياته وتقاطعاته .
التجربة في هذا النص الروائي وليدة الظروف المتشابكة التي نشأ فيها الرائي وتربى وأمدّته في اللاشعور برواسب متنوعة تستحيل إزالتها إذ تتخذ هذه الرواسب شكل السيرة الذاتية حيث أن الرائي العليم بخفايا الأمور، في مكتبة الأوقاف العامة العائدة إلى الكاتدرائية في مدينة سانت غالن السويسرية، ومكنونات المكان والأشخاص والأحداث يستعيد صُوَر الماضي ليُنسِّق من خلال تواليها أحداث تجربته أو رؤيته الخاصة التي تتخذ في نفس الوقت أشكالاً تعبيرية تتراوح بين السرد والحوار، النقد والوصف والمناجاة الداخلية وسواها .
ينتمي بعض أشخاص الرواية إلى البيئة الدينية، المطران ياكوبس كاتس/الخادمة الآنسة شتارك/إبنة جوزيف اليهودي، الفتى الذي ينتمي إلى عائلة كاتس وهي عائلة والدته، ولكن بالرغم من هذا الجامع بينهم فإن كل شخص يتميز بموقعه النفسي والفكري والأخلاقي وقد حاولت لغة الرواية أن تتقمص شخصية كل من هؤلاء إن على مستوى المحور النفسي أو على مستوى المحور الدلالي وإن كان من المسلّم به أن الرواية هي المكان الذي تتداخل فيه الأحداث والشخصيات والأمكنة وتتنوع بتنوع التوجهات الاجتماعية والثقافية والفكرية لأشخاصها فهي بذلك تفتح الباب واسعاً لفسيفسائية لغوية مكنت المترجم إسامة الشحماني من التقاطها وتقديمها للقارئ، وقد ساعدت هذه الالتقاطات اللغوية في المحافظة على التوازن الفكري ما بين تعددية الدلالة وبين كتابة المعنى ومن هنا أيضاً تكمن الميزة الأسلوبية للتعبير اللغوي عند السويسري توماس هيرليمان مثلما اتسعت مساحة السرد أمام القارئ ليستقي التعبيرات المتناثرة داخل البناء الحكائي للنص الروائي الكثيف والغني وقد أفسح المترجم مجالاً واسعاً لتوضيح وشرح الكثير من الهوامش أو الإشارات الواردة في صفحات الرواية .
2
رؤية الروائي النقدية ..
الرؤية النقدية لبعض التعاليم الدينية المغلقة لا تتعارض مع رؤية الدين الحق في هذا النص الروائي لذا من الضروري، كما تبدو لنا رؤية الروائي النقدية، قراءة وتلخيص التجربة التاريخية للشعوب والامم والافراد وذلك في محاولة لتجنب التضحيات والآلام التي رافقت قيم الدين والعقلانية والمعرفة النقدية وهذا لا يمنع الروائي من محاولاته النقدية وفق ما تتطلبه تجربته الشخصية في هذا المكان، أعني مكتبة الاوقاف، والتي سميت بسفينة نوح وهذه التسمية تعكس شكلاً من محاولة تحقيق توازن للذات المربكة أمام الآخروهو برأينا توازن مطلوب، إنما يغذي (تمركزاً معرفياً ونقديا) حسب تعبير الناقد ميخائيل باختين ولكنه يعمل بآليات نقدية تختلف عن آليات التمركز النقدي التقليدي وهذا يتطلب برأينا، أيضاً، انتاج خطابات معرفية ذات دلالات مغايرة جديدة تختلف عن منطوق الدلالات القديمة وقد تلمسنا ذلك من خلال ما أورده الروائي في حوار معه أجرته القناة السويسرية الأولى إذ قال: (إن من الأفضل لهؤلاء تركنا وشأننا إن كنا ننقبُ في أرواحنا أو في تجليات الماضي على صفحاتها) ففي هذه العبارات دعوة نقدية غير مكبلة بالدين وغير مرهونة لثقافة الانغلاق، دعوة للتحرر الفكري الروحي وللإجابة عن اسئلة الواقع والتاريخ وتراكمات الماضي .
رواية (الآنسة شتارك) لا تتنكر لبيئتها الدينية ولكن للنزعة المغلقة الصارمة فيها، بيئة لا يمكن تجاهلها لا شكلاً ولا مضموناً وإذا نظرنا إلى خال الفتى وهو يصور مناخ المكتبة وطقوسها ومحتوياتها بشكل مطرّد أسهم في إعطاء المناخ السردي بُعده الدلالي الرمزي في الرواية وذلك مقابلة بعنصر الالتزام (الديني) الذي بدوره تعدى بكثير إطار دلالته الفكرية وقد يتبدى لنا في خلاصة هذا السرد أن فنية الكتابة الروائية بقيت هاجس توماس هيرليمان بغض النظر عن تصنيف روايته في أي من المذاهب الأدبية الروائية، لغة الرواية انساقت طيّعة من دون أن تستعصي على القارئ ومن دون أن يقسو الروائي عليها وهذا ما حافظ من دون شك على التوازن بين البيئة وطبيعة التعاليم الدينية الصارمة في النص الروائي وبإمكاننا أن نجد في هذا الحرص، من قبل المترجم، على اللغة، في أسلوب توماس هيرليمان، ميزة معرفية بامتياز وسوف يلاحظ القارئ أيضاً مدى التكثيف في المعنى والمفردة والتعليقات المتصلة بالهوامش والدقة في ترجمة المعنى وكتابته .
3
ذاكرة المكان ..
عبر هذا الوعي الفكري والسرد الروائي والتجربة الفردية أرّخ توماس هيرليمان المكتبة (المكان) وجاء تأريخه عقلانياً معرفياً لا أثر فيه للتعلق المرضي بالماضي (الزمان) فالعبارت المتناثرة في النص الروائي والمحملة بشحنات عاطفية مكتومة وبإشارات اعتراضية لم تخفِ الخطفات الدرامية التي يُستشف منها الحرص على مكتبة مهددة بمحاولات صوغها بما يتعارض مع تاريخها الثقافي والفكري والأدبي، مكتبة تملك ماضيها وتغذّي الذاكرة، ومنها ذاكرة الرائي أو تجربته بوجه خاص، ومحاولة استعادة تراث المكان وشخصياته وروحه، فهذه المحاولة من قبل الرائي لم تكن محاولة ذاتية أو عاطفية تجميلية تخفي بمثالبها الشوائب والانغلاق الديني وصرامة التقاليد والطقوس بل تخفي خلف وداعتها قدراً من شراسة متى تعلق الأمر بعائلة كاتس أو بالمعنى الذي اراده الرائي، ولأن المكتبة عند هذا الروائي ليست مكاناً فقط بل ذاكرة ومجموعة علاقات وتواريخ وتجارب وتراث وموروث تسهم في تشكّل المكان وبنائه، لقد أعاد توماس هيرليمان إنتاج هذا الفضاء وإن على الورق فحفظت فضاءات روايته بذلك ذاكرة جماعية بها تستمر ديمومة المكان أياً كان حجم التغيرات الفيزيقية التي تطال معالمه . ثمة لقطات منقولة من مسرح الطفولة تحيل، بعفويتها وبترتيبها الموحي باعتباطيته، على وعي ذاتي غير عادي، لا بل إنها تغذي في الوقت نفسه مكامن المقاومة في الذاكرة الفردية والجمعية على حد سواء وبهذا أرست، الرواية، خطاباً ادبياً ذا لغة غير جاهزة . ثمة الأنا، المتعلقة بالروائي، التي أرادت لنفسها أن تكون عادلة وفاعلة ومنضبطة أعلنت عن حضورها المختلف، في المكان والزمان، والجديد بلغة رشيقة التركيب عميقة الإيصال تختزن تفاصيل الحياة أو التجربة والرؤية الأكثر التصاقاً بوعي الأنا، إلا أن هذا الوعي الفردي الذي حفظ المكان وشخصياته وأحداثه وتفاصيله القائمة في الذاكرة حضر في الخطاب الروائي لتوماس كحالة وعي يحرص بإرادة وعزم على نقل الخاص إلى العام أو العام إلى الخاص وتفعيل دور الذاكرة بمنتهى التجرد والعفوية .


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة