جَمَعْتَني من أغصانِ الليمونِ وأوراقِ الخريفِ وحبّاتِ الكرز، وعَجَنْتَني وشَكّلْتَني كما تشتهي نَفْسُك، فتحايلتَ على السماءِ وسَرقتَ مِنها لَونَ عَيْنَي، ورَتَّبْتَ الأوراقَ كسنابِل ذَهَبٍ تَرتخي على كَتِفَي، وَضَمَمْتَ الأغصانَ معاً لِتُصبِحَ جَسَدَاً واحِداً فكانت بها هَيئَتي، وعَصَرتَ الكَرَزَ وخَمّرْتَهُ حتّى باتَ عَقِيقاً مَحْفُورَاً بِدِقّةٍ وَحِرَفِيّةٍ مُتَنَاهِيَتَيْن، فَتكوّنَتْ بِها شَفَتَاي، فَأصْبَحتُ لُعْبَةً زُجَاجِيّةً تُضَاهي الماءَ بِبَرِيقِها والشمسَ بِقُوّتِها والكريستالَ بِصَلابَتِه.
أَلْبَسْتَنِي مِن نَسيجِ البَنفْسَجِ كِسَاءً، وَجَلَسْتَ تَتَأَمّلُ بي أيام وأيام، تَقُولُ لِنَفْسِك: ماذا يَنقُصُ تُحفَتي؟ فَنَطَقَ قَلبُكَ بِكَلِمَاتٍ مُتَلهِّفة : قَلباً يُحِبُّكَ وتتملّكهُ لَكَ وَحدَك، فانتَظَرْتَ عَروسَ الفجرِ لِتَخطِفَ شالها من الأنحاءِ ولتُضيء الذهبيّة الأرجاء، وتَوَجَّهْتَ مُسرِعاً لِلياسَمين يَستَعدُّ للغناءِ مع عصافيرِ السماء، وقَطَفْتَها من دونِ عَنَاءٍ بِطَرِيقَةٍ هَوجَاءَ مازِجاً الندى بِوَريقاتِها البيضَاء، مُصَفِّفاً ومُجَمِّعاً هَذهِ الصَفَحَات صَاحِبة الحياء، فانطلق عبيرا مُرَحباً بقلبٍ يتلألأُ مع أضواء الزرقاء.
أسماني مَحْبوبَتَه، يُغَازِلُها عِندَ المَغِيب، غَيرَ مَسموحٍ لها الظُهُور في الضياء، يَزُورني عِندَ هُدُوءِ الأنحاء وانتِهَائِهِ من الأَعمالِ والمَصَاعِبَ السَودَاء، لِيَقْضِي سَاعَاتٍ وسَاعَات مَمْزوجةٍ بِعَوَاطِفَ وأَشْواق، فَأنا وَهو نَملِكُ الوقتَ حتّى هُبوب الأشِعّةِ الشقراء، في كلِّ يومٍ مِن أَيّامِ لِقَائِنا كانَ يُعلّمني أَحرُفَ أبجَدِيَّتِه، فَتَعلَّمتُ لَهجَتَهُ وَلُغَتَهُ وأَضْحَيتُ أفهَمُ ما يَدُورُ في عَقْلِهِ مِنْ غَيرِ عَنَاء، وفي كُلِّ مَرّةٍ تَعَلَّمتُ بِها أكثرَ اتّقَدَتْ مَشَاعِري اتجَاهَهُ أكثر، وأصبَحتُ شُعلَةً صَعبَة الإطفاء، فَعَيناهُ أَمَدّتني بِبَحرٍ مالهُ انتِهاء، وكَلِمَاتُهُ أرسَتْني وَرَقَةً على المِيناء، حتّى بتُّ انتَظِرُ اللّقاء، وفي دَاخِلي أمواجٌ مِنَ الاشتِياق والأصداء لِحُبٍّ يَستَعِدُّ التَزَيُّنَ بأجْمَلِ الحُليِّ الزرقاء، وفي يومٍ انتَظَرْتُهُ لِيَدُقَّ البَابَ بدقّاتِهِ الرَقيقة الخفيفة الحَرّاء، ولَبِستُ لهُ ذَلِكَ الفُستان الذي صَنَعَهُ لي، ورتّبتُ شَعْري كما رَسَمَهُ أوّلَ لِقاء، فَدَخَلَ سَاخِراً مُحاولاً الإخفاء، فَرَكَضتُ إليهِ مُتَسَأِلَةً ما سِرُّ هَذهِ الضِحكَةِ الصفراء، فَصَفَعَني بِكَلِماتهِ ورَمى آخِرَ نَظَرَاتِه: استَعِدّي لِلرَحيل فقد حَانَ الوَدَاع. فَدَافَعْتُ عن مشاعِرٍ حَاوَلت النمَاء: سَأبْقى انتَظِرُكَ كُلَّ مَسَاء. فَصَرَخَ مُطَالِباً بِالاستغناء: اجمَعِي مَشَاعِرَكِ البَاليَّة ودُمُوعَكِ الكَاذِبَة، وارحَلي مع رياحِ الشِتاءِ وبَرْدِ الصَحْراء، وتَكَوّمي على نَفْسِكِ خَلفَ الهِضَاب لَعَلّكِ تَجِدِينَ من يُعْجَبُ بِما صَنَعت، وَيَتَّخِذَكِ لُعْبَتَه، فَلَقَد انتَهى زَمَانُكِ لأَنّي أعلَنتُكِ مُنذُ البِداية مَحْبوبَةٌ مَحكُومٌ عَليها الانتِهاء.
مي المصري
mayyoush_19@yahoo.com
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو