السبت 2024-12-14 07:28 ص

مِنْ أيّ خَارطةٍ تَطلُّ جِراحُنَا؟ قـراءةٌ فِي كِتابِ النَّأْي: عاطف محمد عبد المجيد

02:20 م

الوكيل - (1) هَلْ ثَمَّةَ مَنْ يُنكر أنَّ الروايةَ قد أحرزتْ مُؤخراً تفوّقاً مَلْحوظاً بشدةٍ على بقية الأجناس الأدبية / الإبداعية مِنْ حيث نسبة المبيعات والاهتمام النقدي والتحليلي لِمَا يصدر من روايات إضافةً إلى إجراء الحوارات مع الروائيين حتى وإن كانوا صغاراً في ظل ندرة التغطية الإعلامية لأحوال الشعر والشعراء وغيرهم من المبدعين؟

كذلك هل ثمة مَنْ ينكر المكانة التي تحتلها قصيدة النثر في عالم الشعر في السنوات الأخيرة؟
لقد أصبحت قصيدة النثر هي الملكة المتوجة والتي يسعى الكثيرون ـ من أنصارها ـ إلى أن تكون هي النوع الشعري الوحيد بل الأوحد في الوجود.
وبهذا يكون من يُصِرُّ ـ في زمن كهذا ـ على كتابة القصيدة العمودية أو التفعيلية كالقابض على الجمر أو كمن يحتجز نفسه ـ بيده ـ في زجاجةٍ للمياه الغازيّة بتعبير العصر.وما لا حاجة إلى التفكير في إنكاره ـ على الرغم من كل هذا ـ هو أن المسألة لا يكمن لُبُّها في التصنيف أو التجنيس الأدبي أو الشعري لكنه يكمن في القيمة الإبداعية التي يحملها ويقدمها هذا الجنس أو ذاك.
(2)
في ديوانه (قراءة في كتاب النأي) الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة يمسك الشاعر (أشرف محمد قاسم) على الجمر..أعني أنه ما يزال يكتب القصيدة العمودية أو التقليدية كما يحلو لكثيرين أن يصفوها بذلك وكأنهم يُلمِّحون إلى أن وقتها قد ولَّى وحان الوقت لأن تترك مكانها لقصيدةٍ أخرى..لا سيما وأن البعض يعتبرها ولا مكان لها.
غير أنه وعلى الرغم مما يُلْصقُ بالقصيدة العمودية من أنها لا تسمح للشاعر بالانطلاق في آفاق الإبداع كما لا تترك له فرصةً للتعبير عن اليوميِّ والمَعيشِ أو قضايا العصر الراهنة إلا أن الشاعر الحقيقي الذي يمتلك جوهر الموهبة ـ لا قشورها ـ لا تُوْقفه عقبات ولا تَحدُّ تدفق موهبته وانبثاقها أي قيود سواء أكانت يسيرة أو سواها.
وها نحن نجد في قصائد (أشرف محمد قاسم) هذه السلاسة الإبداعية واللغة الرقراقة واللفظة المُوحية المُعبرة والصورة الشِّعرية غير التقليدية والوزن الخليلي الطروب والقافية التي لا اضطرار قَطْ لِلَيِّ عنقها أو حتى ذراعها حتى أنَّ مَنْ يقرأ القصيدة يحس وكأنه أمام عازف بارع يُجيد العزف على أوتار الشِّعر مُستخدماً آلاتٍ شتى لا أمام شاعر وحسب.
كل ذلك بالإضافة إلى الشاعرية التي لا تفتقد إليها قصائد الديوان.
(أَمْسيتَ فى صِدْقِ الهوى ترتابُ
هَلْ سادَ أُفْـقَ العاشقيـنَ ضَبابُ
حتَّى متى؟ نَمْضِى ظِماءً والْهوى
فـوْقَ الشّفـاهِ مَرائـرٌ وتـرابُ
فى إثْرنا قدْ أزْهـرتْ أوْجاعُنـا
وزهـورُ أوْجـاعِ الغرامِ عـذابُ
قدْ ضَاقت الدنيا علـى أحْلامنـا
وغيـومُ غَيْـثِ عيونِنـا تنْسـابُ
تمْضِى خطانا فوْق أشْـواكِ الْمُنَى
يَغْتـالُ أحْـلامِ الْمسيـرِ غيـابُ
ونُطلُّ مِن شُرفات حُلـم ٍ مُقْعَـد ٍ
ضمّتْـهُ فـى أهْدابهـا الأهدابُ)
(3)
إن أكثر ما يلفت الانتباه في هذا الديوان هو أن الشاعر يُزاوج فيما بين القصيدة العمودية والقصيدة التفعيلية..وسواء في هذه أو في تلك يلجأ الشاعر إلى استخدام الأبحر الشِّعرية ذات الموسيقى الرنانة والجرس العالي..كما يستعين بالقوافي المناسبة للحالة الشعورية للقصيدة التي تتباين بين الأفراح والأحزان..بين اليأس وبصيص الأمل المتبقي..بين الغربة وحط الرحال.
وهذا ما تُجسدُّه قصيدة ظمأ يبل شفاهي التي تلعب بطولتها معاناة البحث عن حلم بعيد المنال وأوجاع يكابدها صاحبها عبر رحلته درجة أن تتحول القصائد إلى ما يشبه الظمأ الذي يبلل الشفاه.. وهو هنا لا يقصد البلل بمعنى الارتواء بل يقصد ازدياد الظمأ.
(هَذى يَدى وبها شُقوقُ مواجعِى
وقصائـدى ظَمَـأٌ يبـلُّ شفاهِـى
مَا زِلْتُ تَرْفضُنى البلادُ ولمْ يَزلْ
حُلْمى يُصارعُ يَأْسِىَ الْمُتناهـى !
ضِدَّانِ نحْنُ .. أنا ووجْهُ سعَادتى
وضياءُ أفْراحى خبيثٌ .. سَاهى .
يا عنْكبوتَ اليأْسِ غـادرْ شُرْفتى
ودَع السَّتائرَ للنسيـمِ اللاهـى !)
فهل سيغادر عنكبوت اليأس شرفته ويترك ستائره تمارس طقوسها بِحُريّة غير منقوصة كما يحلو لها؟ أم تراه سيجثم على صدره ليتحوَّل هذا ـ أيضاً ـ إلى حلم بعيد المنال؟ أم يريد له أن يظل بقية حياته مأزوماً تحت وطأة الهموم ونيِّر الأوجاع والجراح اللا تبرأ قط؟
(4)
ولأن الشاعر لا يستقر به مُقام نظراً إلى حالة الغربة التي يعيشها والتي تتجلى في الديوان بدءاً من عتبته /عنوانه (قراءة في كتاب النأي) والنأي هنا صورة من صور الغربة إن لم يكن هو الغربة بلحمها ودمها فهو يحاول ألا يستسلم لهزائمه مهما كبرت وإخفاقاته التي تجتازه خلال تنقلاته فيما بين الأفراح والأتراح مثلما يسعى بما في جُعْبته لِمَنْحِ نفسه حافزاً يُقوِّي مناعَتَه ضِدَّ الخسائر ويدفعه دفْعاً إلى أماكن جميلة يحلو له المقام فيها:
(جفَّتْ ضروعُ الأمنياتِ..تَصحَّرتْ
دوحاتُ حُلْمكَ حين حان حصادُ
أسْرجْ خيولكَ صاهلاتٍ بالأسى
لا تكتم الألمَ/ الصهيلَ/ جِيـــادُ
وارحلْ عن الدار التي في صَحْنها
بدأ الرحيل كما ابتدا الميلادُ
واكتبْ بدمعكَ يا رفاقي في الهوى
مَرَّ القطار وفاتني الميعادُ!)
فهل هنا ثمة تأكيد على ذوبان جليد الأمنيات والأحلام التي تعمل على مساندتها بفعل نيران الغربة وسعيرها؟ أم ترى هي إشارة من بعيد إلى البحث عن بداية /عودة جديدة إلى الوطن الأم؟
وكما يعاني الشاعر/الذات الشاعرة من جراح شتى..ثمة جرح غائر وعميق يزداد إيلاماً يوماً بعد يوم..ألا وهو جرح الغربة/ الاغتراب والذي يبدو أنه قدر مكتوب على الشعراء أو هو قرص دواء لا مفر من ابتلاعه وإن لم يشفِ وإن كان علقماً:
تسافرُ؟كيف تَحْملكَ المواني؟
إلى وطن غريب غير حانِ
تُبعْثرُ في دروب القهر عمراً
لتبحثَ عن سويعاتِ الأمانِ
فأين يبحث إذن عما يريد وهو الغريب المغترب؟
إنه يبحث عن الوطن البديل في عينيّ محبوبته التي اتخذها بالفعل بديلاً عن الوطن الذي افتقد إلى الأمان فيه وإلى الحنوِّ والذي قذف به دونما إثم إلى حياة الغربة أو غربة الحياة.
وكسرتِ حاجز غربتي حين التقت
عينان خلّت بينها الأسوار
لكنه يعود مرة أخرى ليُسلِّم نفسه لغربة اضطرارية لا بد منها:
نمضي يُسَنُّدُنا الجوى ويهزنا
شوق تبعثر والعيون غضابُ
نتلو كتاب النأيِّ دون إرادة
ونظل نرحل والدروب كِذَاب
إذن ثمة مواجهة هنا بين الذات الشاعرة وبين غربة سرمدية بدأت ويبدو أنها لن تنتهي مطلقاً.وما أشدّ جراح من يغترب وحيداً ليس معه سوى آلامه ومكابداته ولا يدري إلى أين ولا إلى متى:
تسافرُ؟ والحقيبة ليس فيها
سوى ألم تترجمه الأغاني
وهكذا يظل أسير معاناته دون أن يطمح إلى الوصول إلى خلاص مما هو فيه:
أنين الناي يشرخني ويمضي
وتستبق الظنون إلى اختطافي
وفي بحر الأسى يمضي سفيني
ولم أبلغ بأحزاني المرافي!
بل إن الأمر ليصل ـ من شدة وقسوة ما يلاقي ـ إلى التساؤل عن مصدر الجراح ومن أين تأتي فلربما استطاع أن يغلق نوافذه في وجهها حتى لا تدلف إليه..لكن هل يتمكن من العثور على الإجابة:
من أي خارطةٍ تطل جراحنا
ولأي حتفٍ في الحياة نساقُ؟
(5)
في قصيدة أشواق السندباد تُصوِّر الذات الشاعرة حالةَ مَن يبحث عن شئ مفقود/عن أبيه طمعاً في دفءٍ وسكينة وقلب حنون يحتمي فيه من زمهرير الحياة بعد أن تحولت إلى بيداء قاحلة لا حُبَّ فيها ولا طمأنينة:
الآن أجلس يا أبي / كالطفل أبحث / عن عيونك في الظلام / البحر ساج / والسماء حزينة / والحزن في قلبي / ينام ولا ينام.)
إذن البحث هنا ليس عن عينيّ أب بل عمَّن يضيء الطريق. بالأحرى البحث عن قائد يقود الخطوات في عصر يندر فيه من يضطلع بالقيام بهذا الدور.
أما قصيدته (مكتوب بالدم) فيهديها إلى مروان البرغوثي وهو هنا يتخذ منه نموذجاً يحل محل كل الشعراء الذين يعيشون حياتهم كالعصافير الغريبة حتى وهم بين أهاليهم وعلى أرض أوطانهم :
(ها أنت / أغنية تسافر / كالعصافير الغريبة / تبتغي وطناً / يلملم جرحها المفتوح / تُصَدُّ بالحدود وبالبنادق.)
(6)
يبقى أن أقول إنه على الرغم من أن ثمة محاور عدة يتمحور حولها ديوان قراءة في كتاب النأي للشاعر أشرف قاسم إلا أن ما يظهر جلياً منها هو المحور الذي يتكيء على مفردات الغربة حتى أنه يمكنني القول إن قصائد هذا الديوان ما هي إلا تنويعات مختلفة على وتر الغربة بما فيها من أحزان وآلام وجراح وفقدان للأمان والطمأنينة وبُعْدٍ عن الأهل والأصدقاء والأحباب.ونتيجة لهذا استعان الشاعر بالمفردات التي إن لم تُصرِّح بهذه الحالة الشعورية الكامنة في ذاته فقد لوَّحتْ بها من بعيد.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة