السبت 2024-12-14 10:59 ص

من الشنفرى إلى شكسبير!

10:32 م

الوكيل - صدر عن ‘المؤسسة العربية للدراسات والنشر’ ببيروت كتاب جديد للدكتور عبد الواحد لؤلؤة يحمل عنوان ‘دور العرب في تطور الشعر الأوروبي’. يتضمن الكتاب مقدمة وتوطئة وعشرة فصول إضافة إلى ثبت بالمراجع العربية والأجنبية.

تعود فكرة هذا الكتاب إلى عام 1971 حينما حصل لؤلؤة على تفرّغ علمي من جامعة بغداد كي يجري أبحاثاً في جامعة كمبريدج عن الشعراء التروبادور ويتتبع دور العرب في تطور الشعر الأوروبي على اعتبار أن العرب أمة شعر، ولا بد أن تكون لهم بصمة في شعر التروبادور الذي ظهر في أواسط القرن الثاني عشر الميلادي في إقليم ‘بروفنس′ وأخذَ عن الموشح والزجل خاصة، والشعر العربي الأندلسي بصورة عامة شكلَ القصيدة وموضوعاتها التي تحتفي بالحُب الدنيوي، الشخصي، وغير الكنسي الذي يقدِّس المرأة ويُعلي من منزلة الرجل إذا أحبَّ امرأة.
يشير لؤلؤة إلى أن فتح الجزيرة الإيبيرية سنة 711م من قِبل المسلمين والبربر واستقرارهم في الأندلس لثمانية قرون هو الذي أسهم، بشكل أو بآخر، بتطور شعر محلي بإقليم بروفنس ‘الباسك’ حالياً، يُطلَق على صنّاعه ومبدعيه اسم الشعراء التروبادور الذين نهلوا من الموشحات والأزجال كثيراً وازدهر شعرهم لمدة قرنين من الزمان قبل أن يشّن البابا أنوسنت الثالث حملته الألبيجية المعروفة ويفرقهم أيدي سبأ حيث انتشروا في شمالي فرنسا وصقليا وإيطاليا وألمانيا قبل أن يعبر بعضهم إلى الجزر البريطانية مع شعراء البلاط في القرن الثاني عشر ويترك تأثيره على سونيتات شكسبير التي تتردد فيها أصداء التروفير والتروبادور وما ورثوه عن أجدادهم الوشّاحين والزجّالين.
يؤكد لؤلؤة بأن التداخل والتماس بين الشعوب والحضارات كان يحدث بعدة طرق من بينها الحروب، والغزوات، والعلاقات الدبلوماسية، والتجارة، والتزاوج وما إلى ذلك. وأول لقاء بين الشرق العربي الإسلامي والغرب الأوروبي المسيحي كان في معركة اليرموك عام 636م ثم تبعه فتح الأندلس الذي أفضى إلى المصاهرة وهي أقصى درجات الاندماج مع دول إسبانيا الثلاث نافار وليون وقشتالة.
توقف لؤلؤة عند الجانب التاريخي في تطور الشعر العربي الذي بدأ بالشنفرى وأمرئ القيس وعبيد بن الأبرص وطرفة بن العبد وذي الرمّة وبشار بن برد وغيرهم من الشعراء القدامى وصولاً إلى أبي نواس الذي خرج على أساليب الأقدمين، وسخر من مطالع قصائدهم مُطوِّعاً المعاني والمباني في آنٍ معا.
يركز لؤلؤة على أهمية وصول زرياب إلى الأندلس سنة 822م واللمسات الحضارية التي أضفاها على البلاط الأندلسي مثل آداب الطعام والشراب، إضافة إلى غناء الموشحات بمصاحبة العزف على العود، ورقص الجواري والغلمان الذي نقله عن ليالي الأنس العباسية. لعل أبرز ما يميز الموشحات هو احتفاؤها بمشاعر الحب الدنيوي وسماحها بدخول بعض المفردات الأعجمية إرضاءً للجمهور متنوّع الأجناس.
ربما يختلف المؤرخون في الوصول إلى مخترع الموشح فمنهم من ينسبه إلى ابن المعتز ‘ت909م’، وبعض أصحاب المراجع الموثوقة مثل ابن بسّام الشنتريني ‘ت1147′ صاحب ‘الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة’ يحيل اختراع الموشح إلى مقدّم بن معافى القبري، لكن الأهم من الريادة هي المراجع التي حفظت لنا هذه الموشحات وعلى رأسها ‘ديوان الموشحات الأندلسية’ للدكتور سيد غازي، و ‘دار الطراز في عمل الموشحات’ لابن سناء المُلْك وغيرها من الكتب والمصادر المُعتمدة.
نشأ شعر التروبادور في إقليم بروفنس كما ذكرنا آنفاً وقد برز في كتابة هذا النمط الشعري عدد كبير من الشعراء التروبادور من بينهم غيّوم، ثيركامون، برنار ديفنتادورن، غلهيم دي مونتاغول، ماركبرو، آرنو دانييل، سورديلّو وغيرهم، لكن الاهتمام قد انصبّ على الأمير غيّوم التاسع ’1071-1125م’ بوصفه أول شاعر ينظم بلغة البروفنس وهي لغة غير لاتينية وقد ظهرت القافية أول مرة في قصائده بخلاف الشعر الأغريقي أو اللاتيني الذي لا يتوفر على مثل القوافي. فالسؤال الجوهري هنا: من أين أتت هذه القوافي في قصائد غيّوم إن لم يكن قد تعلّمها من الشعر الأندلسي أو العربي؟ قرر الأمير غيّوم أن يقود حملة إلى القدس لتحريرها من أيدي المسلمين، لكنه وقع في الأسر ومكث هناك ’18′ شهراً يُعتقد أنه التقى بأقرانه الشعراء من العرب والمسلمين. وحينما عاد بدأ يكتب شعراً في أغراض شعرية أخرى كالحب الدنيوي، والتشبب بالنساء، ولواعج الحنين، هذا إضافة إلى شكل قصيدته التي انتظمت في مقطعين، يتألف كل مقطع من سبعة أبيات لها قافية تختلف عن قافية الأبيات السبعة الأخرى اللاحقة الأمر الذي دفع الباحثين الأسبان والفرنسيين والإنكليز والأميركيين إلى السؤال عن مصدر هذا الشعر وكيفية حلوله في هذه المضارب؟
إن أبرز ما يميز هذه القصائد هو موضوع الحب الدنيوي الذي يرفع من منزلة الرجل المُحب، كما يجعله ذليلاً في خدمة المحبوب، ويجعل من المرأة معبودة لأنها مصدر السعادة للعاشق. تبدو هذه الفكرة جديدة وصادمة في أوروبا لأن المرأة لم تكن لها أهمية إلاّ إذا كانت ملكة أو قديسة. وقد أُشيع طوال العصور الوسطى بأن المرأة ‘شرّ’ وأن ‘الحب خطيئة’ فلاغرابة أن يُصدر مطران باريس، ستيفن تومبييه تحريماً ومنعاً لـ ’219′ كتاباً إضافة إلى كتاب كابيلانوس ‘لأنها تناقض الدين والأخلاق الحميدة’!
ثمة آراء كثيرة تحط من قدر المرأة وقد أورد لؤلؤة بعضها من قبيل أن المرأة هي ‘مصدر للشهوة الجسدية’ و ‘اللذة الجنسية’، وأنها ليست أكثر من ‘حاضنة لإنجاب الأطفال الشرعيين’ وما إلى ذلك، لكن شعراء التروبادور اخذوا يتشببون بالنساء، ويرددون في قصائدهم بأن ‘الحب ليس خطيئة’ ولا يجدوا ضيراً في عبادة محبوباتهم وهو ما لم نألفه في الشعر الأغريقي واللاتيني، وإنما نجد أصداءه في التراث العربي والموشحات والأزجال الأندلسية.
توزّع الشعراء التروبادور إلى عدة دول وممالك بعد الحملة الألبيجية فمنهم من ذهب إلى شمال فرنسا، ومنهم من اتجه إلى صقليا وإيطاليا وألمانيا والنمسا، ومنهم من يمّم وجهه شطر الجزر البريطانية حاملين معهم أفكارهم وموضوعاتهم الشعرية الجديدة التي تتحدث عن الحب الحسيّ والحب البعيد كما فعل جوفري روديل الذي أحبّ كونتيسة طرابلس من دون أن يراها!
يعتقد لؤلؤة أن أهم ما قدمته المدرسة الصقلية هو اختراع الشاعر جياكومو دا لينتيني للسونيت ذات الأربعة عشر بيتاً ثم طوّرها دانته أولاً وبترارك ثانياً كما في قصيدته ‘الأعجوبة’ قبل أن يضع شكسبير لمساته الأخيرة عليها. لقد أفاد شعراء صقليا وإيطاليا من شعر بروفنس الذي كان يستمد إلهامه من الموشح والزجل الذي ازدهر في ممالك الأندلس. لا بد من الإشارة إلى أن هذه السونيت لم تكن نسخة كاربونية عن نظام الموشح والزجل لأن هذا الاستنساخ الضوئي يغمط حق الشاعر في ممارسة موهبته الفردية كما يذهب الناقد عبد الواحد لؤلؤة.
حينما انتقلت الملكة إليانور وابنتها ماري من فرنسا إلى إنكلترا اصطحبت معها عدداً من الشعراء التروبادور والتروفير الذين تركوا بصماتهم على الشعر الإنكليزي في نهايات القرن الثاني عشر فتلقف جوفري جوسر موضوع الحب البلاطي الذي لم يكن معروفاً في التراث الأنكلوساكسوني أو اللاتيني القروسطي. أما ذروة التطور فقد بلغت في عهد شكسبير الذي عالج موضوع الحب في ’154′ سونيت تتكوّن كل واحدة منها من ثلاث رباعيات ومُزدَوجة تشبه الخَرجة في الموشّح الأندلسي بخلاف بتراركا الذي كتب السونيت بمقطعين الأول ثُماني الأبيات والثاني سُداسيّها.
ينطوي الكتاب على آراء كثيرة وثلاث نظريات حلّلها الدكتور لؤلؤة على مدار الكتاب وهذه النظريات هي النظرية العربية التي تقول بأن جذور شعر التروبادور موجودة في المخمسات والمسمطات وفي الموشحات والأزجال الأندلسية العربية. أما أصحاب النظرية الأوروبية فيقولون بأن جذور التروبادور موجودة في الشعر الأغريقي واللاتيني، فيما يذهب أصحاب النظرية المحلية الثالثة إلى القول بأن جذور التروبادور موجودة في الشعر المحلي الرومانثي الضائع. وفي الختام لابد من الإشارة إلى أن هذا الكتاب يشتمل على رحلة طويلة بدأها الدكتور لؤلؤة من الشعر الجاهلي القديم، مروراً بشعر صدر الإسلام والعصر العباسي والعصر الأندلسي، وانتهاء بالتروبادور الذين تبددوا في البلدان والممالك المجاورة حتى استقر بهم المطاف في صقليا وإيطاليا وألمانيا والنمسا والجزر البريطانية حيث تطورت السونيت حتى استقر مبناها ومعناها على يد شكسبير الذي أفاد من دون شك من تقنيات الموشح والزجل والخَرجة.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة