الأحد 2024-12-15 17:48 م

من وحي محمود درويش

11:31 ص

الوكيل - لاننا ولدنا معا على قارعة الزنزلخت كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة، سامحني، ففي (حضرة الغياب) لن اختصر الوداع ولن انصرف الى عشاء احتفالي يليق بذكراك، بل سأنسج من عيون الليل وشاحاً يليق بحزني المنسي بين فراشتين….

‘لا تعتذر عما فعلت’ إلا عن موتك، فـ’أحمد الزعتر’ نازلا من جرحه القديم يسأل عنك، مازال يرقب سواحل بيروت وعيونه مسمرة على القطارات التي تمضي بلا مستقبلين وياسمين ينتظرك و’لا يريد لهذه القصيدة ان تنتهي’ فما زال رغم ‘يومياته من الحزن العادي’ يريد ان يسمع ‘شيء عن الوطن’ فهو يعترف ويردد على مساحة الموت والحزن: لولاك يا سيدي ‘لم تنهض حبيبتي من نومها’ ولم يعرفوني في الظلال التي تمتص لوني في جواز السفر….
انت لم تمت كعصافير الجليل بل استقوى عليك الموت هنا في المنافي التي تمتص لوني وتحرق قلبي وتمزق ذاكرتي…. فهل يجمعنا الموت على سفوح القدس!!؟؟ هل نلتقي بعد قليل… بعد عام بعد عامين وجيل؟ سنلتقي …لا بد أن نلتقي فـ ‘أثر الفراشة’ سيدلنا عليك، شاطئ البحر… رائحة الليمون …دم في النخيل….دم في السحاب… سنعرف طريقك كما تدحرج القلب ككوز صنوبر من جبل لبناني الى رفح…
سنلتقي لاننا لن ننسى دروب البيت وباب منزلنا وعتبتنا الخريفية فأنت من علمتنا ان هناك ‘ذاكرة للنسيان’ وأن الموت نوم سحري مفروش بأسماء العنب …علمتنا كلما ابتلع المكان انفاسنا وضاق الليل بأحلامنا وعشعش القرف في مساماتنا ‘أن على هذه الارض ما يستحق الحياة’….
صحيح أننا نعيش لوعة الغياب يوماً وراء يوم، غياب يفتت قلوبنا منذ أقلعت سفننا عن كل الشواطئ وطردتنا كل المنافي، ولكن وفي صباحاتنا وإن غبت فلم تغب قهوتك عن طاولاتنا حتى نكاد نرى يدك تحرك معنا دلة القهوة وتدلنا كيف تكون القهوة طازجة كالصباح وندية كزهرة اللوز، ولم تغب دمعة سالت على وجه أمي ذات صباح..حين رحلت….صحيح أننا برحيلك خسرنا لقاء كان مفترضا في ملعب كان سيكون مكتظاً بالأنفاس والحضور لكن أوراق الزيتون مازالت مبعثرة على وسائدنا نشمها كل ليلة ونلوكها، ثم ننام…
صحيح أن ريتا لن تحظى بالمزيد من القصائد التي كنا سنرددها عن ظهر قلب، لكن الحمام مازال يحط على كف عاشقة ويهدهد الأرض لقلب متعب كي يستريح…. صحيح أننا نسير في كل يوم إلى جهة الريح وفراشنا معلق على رؤوسنا ولكن هناك في البعيد مازال الحصان يصهل من وراء الباب ليؤنس وحشة الدار ووحشة القلب..وأما نشيدك فلم يستطع ابن سجان أن يحمي المدينة من نشيدك ….لك ما أردت فهذه القصيدة لم تنته…ولن تنته…. فقد حفرت جداريتك على القلب بعد أن امتلأتَ بكل أسباب الرحيل… لكنك لم تعطِ عمرك فرصة أخرى لترميم الحكاية …ثم بعد كل هذا…. رحلت مصدقاً حدسك أنك وكما قلت: ‘(لم أزل حياً)’….فكلما مررتُ بالمطارات القريبة والبعيدة وقلـّبوا جواز سفري أحسست بأنفاسك تهمس في أذني : إنهم لا يريدونني بينهم يا أبي ، الفراشات حطت على كتفي ومالت عليّ السنابل… فماذا فعلتُ أنا يا أبي ولماذا أنا…..
وبعد أن رحلتَ تساءلتُ: ماذا سيبقى من غبار البحث عن معنى ؟..ماذا سيبقى من كلام الشاعر العربي ؟…هاوية… وخيط من دخان…أم نسيان ضروري لذاكرة المكان….فالشعر بعدك افتقد أغنية المسافر للحصان…و آثار السماء على الكمان..أما صوتك فسيظل محفورا وشما على جسدي …فمن فلسطينيتك وإنسانيتك…من عشقك …من همك…من ميلادك ….و من موتك سأرسم للسنونو الآن خارطة الربيع وللمشاة على الرصيف الزيزفون…


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة