السبت 2024-11-23 18:19 م

هشاشة العمق الاجتماعي والثقافي للحقیقة

07:44 ص

تبدو ظاھرة الكذب الجماعي والاستسلام للاشاعات والاخبار المزیفة والقدرة على التضلیل في المجتمعات العربیة المعاصرة في ھذه اللحظات التاریخیة ذات معنى مختلف عما یدور في الكثیر من المجتمعات الأخرى، وھذه الحالة ذات دلالات قد تأخذنا إلى مناطق أخرى في نقد المجتمعات العربیة، ونقد التكوین الثقافي والسیاسي أبعد من المناطق القاسیة التي أخذنا إلیھا حلیم بركات وھشام شرابي في نقدھما الشھیر للثقافة والمجتمعات في العالم العربي قبل نحو ثلاثة عقود.



المجتمعات العربیة خسرت في القرن العشرین معارك عدیدة ؛ وفي ھذا القرن یبدو أنھا دخلت موجة ظلامیة تعید من خلالھا الدوران في موجات تاریخیة مرت بھا سابقا فسؤال الدولة الأھم ھذه الأیام یدور على الھشاشة الاجتماعیة والثقافیة، إن النظم السیاسیة والكیانات لم تنتج أرضا صلبة تقف علیھا المجتمعات والمؤسسات والجماعات والأفراد وصولا للدول بل الكل یقف على قشرة رقیقة ذات ھشاشة مفرطة.


فیما نكتشف كل یوم عمق الفقر الاجتماعي والثقافي للدولة الوطنیة؛ فلأول مرة تاریخیا تندمج القواعد الاجتماعیة في النقاشات حول القیم الكبرى بفضل تكنولوجیا الاتصال والإعلام المعاصرة، ولأول مرة نكتشف حجم فقر فكرة الدولة وضعف فكرة التوافق ؛ فلا یوجد تأصیل اجتماعي وثقافي یحملھما ؛ فماذا تحمل القواعد الاجتماعیة التي تسبح على صفحات الشبكات الاجتماعیة سوى تردید أفكار أسیرة بالماضي وبصورة في أغلب الأحیان غیر صادقة وغیر تاریخیة عن ماضیھا او الاستسلام للمؤامرة التي یجري حبكھا في لیل داھم بینما ثمة صمت مفرط عن العیوب والابتزاز والتنمر السیاسي الخارجي والداخلي او النھب المنظم للثروات.

كیف تساق المجتمعات لجاذبیة التضلیل وسط سیل جارف من تدفق المعلومات والأخبار إلى درجة یفقد الفرد فیھا القدرة على التمییز ونفتقد ما كنا نسمیھا الحواس والقدرات الانتقائیة لدى الجمھور ؛ فالجمھور ضحیة للطریقة التي یستخدم بھا السیاسیون والناشطون والمؤثرون  الوسائل الجدیدة وسط تعدد وتنوع الفاعلین في ھذه البیئة لحد لا یمكن حصرھم او تحدیدھم علاوة على القدرة على إخفاء الھویات وتبدیلھا وتزییفھا إلى جانب خلق ھیمنة الاتجاه السائد الذي قد یصنع بسھولة یوھم الناس أنھ یشكل الأغلبیة.

الرعویة الجدیدة لھا امتداد ثقافي عمیق فھي تصر على الاستمرار بالعلاقات الریعیة اقتصادیا سواء مع الخارج او مع مجتمعھا لأن أحدا ابرز أركان استمرار علاقات التبعیة الرعویة یتمثل في استمرار الاعتماد الاقتصادي على حساب بناء قدرات إنتاجیة محلیة، في حین تنسج على حوافھا رعویة ثقافیة راكدة تتحول عبر عملیات التراكم الطویلة إلى اداة قویة تحمل المشروع الرعوي في نسختھ الاقتصادیة والسیاسیة. وعلى الرغم ان الرعویات الجدیدة اكثر مرونة من السابق وتلبس احیانا لبوسا لیبرالیا واحیانا تبدو انھا تسعى نحو الاقتصاد الاجتماعي الا انھا تقدم مفھوم الولاء على مفاھیم الانتماء والصالح العام، بمعنى ان ادوات الرعایة تستمر وتتجسد اكثر في الوقت الذي تتراجع عملیا ادوات الریع بمفاھیمھ الاقتصادیة والاجتماعیة على وقع التحولات السیاسیة وتقلبات الأسواق والزیادة السكانیة وتفاقم أزمة المجتمعات الاستھلاكیة.

لا یوجد معركة اكثر عدالة من حق الناس في ان یعرفوا من ھم، وإلى این یمضون، وكیف یتخذون قراراتھم الیومیة، وما علاقاتھم بالمعاني والقیم الكبرى وماذا یعني لھم الماضي والمستقبل وما ھي مصادر التھدید الحقیقیة التي تنتظرھم، وصولا إلى متى یكون الناس جزءا من الحل ومتى یكونون جزءا من الأزمة وتعقید الموقف، السؤال الاكثر إثارة للقلق كیف نؤصل فكرة الحقیقة في العمق الاجتماعي والثقافي وسط ھذه الھشاشة المفرطة.

gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة