السبت 2024-09-21 22:34 م

يوسف ابن متري ..

07:19 ص

الله يرحم يوسف ابن متري؛ كان يرعب الأطفال حقا، كي يمنعهم من الاقتراب من الشارع العام، حفاظا على حياتهم.



كان المرحوم موظفا في بلدية الربة، وهي من أقدم بلديات المملكة، وكان يقوم بعمل تطوعي أيضا، يمليه عليه ضميره، فهو وبلا تكليف من أحد أو جهة يتولى مهمة الحفاظ على حياة أطفال القرية، وإبعادهم عن خطر السيارات التي تمر عبر الشارع الرئيس الضيق، الذي يقطع القرية من شمالها إلى جنوبها، حيث كان رحمه الله، يحمل بيده عصا صغيرة، وتكاد تسمع صوته يوميا وقت الصباح والظهيرة: « ياعيل فوت ع الدار.. والله لألعن ابو اللي لبتك».. «يا عيل يلعن اجر أمك..وقف وقف!»، ومن المؤكد بأن الطفل لا يقف بل يهرب راكضا من حيث أتى..


اكتبوا في مذكراتكم أن يوسف ابن متري كان مواطنا صالحا يقوم بعمل تطوعي ليدرأ الخطر عن اطفال القرية قبل وقوعه في شارع القرية.


إن شارع القرية كان طوله كيلو مترا تقريبا وكان شبه فارغ، حيث يبدأ شمالا من دكانة سليمان صيف «قدام الآثار»، ثم دكانة أبو الياس تليها دكانة اقطيش، فدكانة فهمي ثم دكانة سالم الخليلي وملحمته، ثم دكانة أبو عطا وملحمته، ثم فرن عبدالهادي، تليه دكانة جميل الخليلي والملحمة، فدكانة محمد القبوي، ودكانة أبو زياد، وعطا الله العزامي، وأبو فايز، وأخيرا في الجنوب دكانة أبو جليل..وكان في الحارة الفوقى دكان لمرشد وأخرى ل «أبو عدينة»، ولا تزاحم أو اكتظاظ في الشارع، سوى وقت ترويحة المدارس، حيث كان يوسف ابن متري يشكل معلما واضحا في هذه الأوقات، فهو بمثابة شرطي المرور الذي لا يتدخل بالسيارات ولا بالناس الكبار، انما عمله منصب نحو سلامة الأطفال.. وكان يبلي حسنا، علما أنه كان يشكل فزاعة بالنسبة للصغار، حيث كانت أمهاتنا يقلن لنا «لا تطلع. هي يوسف واقف ع الشارع» وهذه عبارة تكفي ليتراجع أي طفل عن الخروج إلى الشارع.


يوسف؛ وافق على الزواج متأخرا، فأصبح اسمه «أبو ربيع»، ونحن نحتاج اليوم ليوسف في كل مكان؛ وذلك من أجل حماية الشباب هذه المرة، فهم مجرد مخلوقات تائهة في أسواق الموت والظلام، التي تروج القتل والارهاب، وتتلقف شبابنا بل وتخرجهم من بيوتهم وأوطانهم ليسيروا في ركب الموت والدم المسافر في شقوق سقوف القوانين والأمن والوعي..


كان الرضى يعمر قلوب الناس في القرية لما يقوم به يوسف ابن متري، فهم لا يخشون أن يتسرب الأطفال إلى الشارع العام ولا حتى الطرقات الفرعية ، فيوسف لهم بالمرصاد، وكان أحيانا يلاحقهم حتى بيوتهم، ويوجه الكلمات المحذرة الغارقة بالتهديد والوعيد للطفل إن هو خرج للشارع، لاحظته يفعلها يوما وقد كنت واع نسبيا، وكان يلاحق أحد إخوتي الأصغر مني سنا، لكنني لاحظت أنه يضحك في وجه أبي وهو يكيل اللعنات لشقيقي الأصغر، ففهمت أن يوسف يقوم بدور يحوز رضا الأهل وتشجيعهم، وينال استحسانهم وتأييدهم..كلهم متفقون علينا بصراحة، كلهم سهروا على سلامتنا من الحوادث المأساوية.


لكن لا إجماع كليا على طريقة تنوير الشباب اليوم، والنأي بهم عن الإرهاب ودروبه ومسالكه وتجاره ووحوشه، فثمة وجهات نظر وصمت ومبادرات خجولة وقوانين منكفئة ومناهج وثقافات حائرة، وهوة سحيقة بين الشباب ومشاكلهم وبين الجهات المسؤولة عن تنمية الموارد البشرية ورعاية الثقافة والتعليم والعمل .. لا يوجد منارة واحدة يهتدي بها الناس كما كانوا يفعلون أيام يوسف ابن متري، بل أصبح لكل كائن عالمه الخاص، يغوص فيه دون إبداء أية إشارة بأنه يعيش الواقع ويعلم ما يجري حوله .. كل شخص أصبح «نسيج وحده» حتى في البيوت، هم كذلك تقريبا!.


وحين يصل الشاب إلى قناعة للتعامل مع محيطه بإيجابية، فسرعان ما تنطلق منه الأسئلة والاعتراضات والأحكام المسبقة، إلى الدرجة التي تشعر معها بأنه قد حضر للتو فيلما أجنبيا مترجما بلغة نخبوية غارقة بالمفردات الدخيلة..! من هؤلاء البشر وكيف أصبحوا هكذا؟ هم تقريبا قد نجوا للتو من حادث دهس لم يقض على حياتهم بل تعرضوا لخسائر جسدية وصحية واضحة تظهر فداحتها من خلال منطق الحديث، الميال للنزق والثورية وعدم الرضا عن أي شيء يدور حولهم ..أين كان يوسف عن هؤلاء؟!.


لن تصدقوا كم بكى يوسف حين توفت بحادث دهس على ذات الشارع ابنة شقيقته الصغرى، التي جاءت ذات عيد من عمان لتعيد عند جدتها فضية، يومها أدركت أن يوسف كان كتلة إحساس بالطفولة، وتساءلت عن شعوره بالتقصير لأنه لم يتمكن من «تخويف الضيفة الصغيرة لمنعها من الخروج إلى الشارع..يا ألله كم بكى يوسف وأمه على تلك الصغيرة»!


سجلوا أيضا في مذكراتكم الشخصية الجميلة: كان يوسف يقوم بعمله التطوعي ليحافظ على كل أطفال القرية، ولا ينال عليه جزاء ولا شكورا، وكان ينجح دوما، وقلما يسقط الأطفال ضحايا للسيارات وغيرها من أخطار الشوارع..


نريد يوسف ابن متري لكل طفل وشاب متسوح او متسوق في عالم اقتحم عزلة الناس، ودخل بيوتهم وعقولهم دونما استئذان ولا ترحيب.


ونريد يوسف ليحرس ثقافتنا وقيمنا وفرصنا الطبيعية في حياة آمنة بعيدة عن الخطر والحوادث المؤسفة.نريد يوسف ابن متري يا بلدية.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة