عصفور تدمر وقارة (زيلانديا)

قبل أيام أعلن علماء جيولوجيون عن وجود قارة جديدة في جغرافية علمنا الأرضي. قارة (زيلانديا) جنوب غرب المحيط الهادئ بمساحة تقدر بـ 5 ملايين كيلومتر، لكن 94% من هذه القارة الشاسعة يغرق في لجة المحيط بكل نسيان وغياب، ولا يظهر منها إلا دولة نيوزلاندا، وبعض الجزر الصغيرة الأخرى.اضافة اعلان


في عالمنا التاريخي يبدو أن الحقائق المؤلمة تتشابه مع ما يغرق في المحيطات والبحار. فجبل الجليد العائم لا يظهر منه فوق صفحة الماء إلا خمس حجمه تقريباً، فيما بقيته المهولة تغيب عن الأعين والحواس والحساب.

جاء خبر زيلانديا عقب تقرير منظمة العفو الدولية، حول جرائم النظام الأسدي في سجن صدنايا. والذي أفاد بوقوع 13 ألف عملية شنق لمساجين معارضين خلال السنوات الست الماضية. هذا التقرير الدامي لم يلق رواجاً شعبيا، ولم يثر حزن الكثيرين، ولم يتحسر الناس حتى على أؤلئك المشنوقين، الذين اضطر الجلادون لتثقيل أوزان أجسامهم المبرية، كي ينال منهم حبل المشنقة، وتعمل جاذبية الأرض على كسر رقابهم بسلام.

وبعد زيلانديا ظهرت شهادات حية لناجين من سجن تدمر صاحب الصيت الأسود. يبوحون بما عانوه في هذا الجحيم الارضي. كيف يبيتون محشورين متخالفين: رأسا لقدم. كيف يأكلون ويلعقون ماء الشرب من أرضية السجن. وكيف تمتهن إنسانيتهم وتراق كرامتهم كل لحظة.
سجين لبناني من هؤلاء روى كيف التجأ إليه عصفور دوري، بعدما حاول المساجين إسقاطه ببشاكيرهم. لكنه ما لبت أن فارق الحياة رغم أنه منحه بعض ريقه ودفء يديه. بكى السجين عصفوره، وعاتبه كيف جاءت به الأقدار ليجنح من زرقة سماء واسعة إلى ظلمة سجن حقير.

هذا السجين صار معروفاً لدى السجانين بالعصفور. ولأنه عصفور صاروا يجبرونه على أكل الحشرات والصراصير والكائنات الصغيرة من نمل وخنافس وغيرها. وذات مرة وجد سجان عصفوراً نافقاً في الباحة الموحلة، فأمر عصفوراً أن يأكله بريشه وعظامه وأحشائه، تحت وابل الكرابيج والهراوات.

عصفور التهم عصفوره بشق الأنفس، فشقق حنجرته، ومزق حباله الصوتية، التي ما زالت تحتفظ بجرحها أخضر، كان متلعثما ومتهدجا، وهو يروي لنا مأساته عبر فضائية عربية.

ستبقى الإحصائيات بتراء ناقصة وغائبة مغيبة، ولن نعرف الحقائق كاملة كما هي. ففي العادة سيبقى علينا أن ننتظر سقوط الأنظمة الدكتاتورية؛ كي نعرف فظائعها وجرائمها، وحتى ذلك اليوم المنظور، سيبقى سجن صدنايا بأرقامه المعلقة على حبال الموت، وسيبقى مع سجن تدمر مثل نيوزيلندا بالنسبة لقارة غاطسة تحت ماء الغياب تسمى زيلانديا.