الأحد 2024-12-15 11:37 ص

أوركسترا ‘النور والأمل’ تشدو أنغاما في سماء برلين وهامبورغ

01:23 م

الوكيل - هل يمكن عزف الأوبرا دون نوتات موسيقية؟ وهل يستقيم العزف الكلاسيكي دون مايسترو بعصاه الشهيرة التي يقود بها العزف والعازفين؟ يبدو الأمر ضربا من الجنون بالاعتماد على الحفظ فقط ولا شيء سواه، واستظهار ريبرتوار عالمي من الموسيقى الكلاسيكية الغربية والشرقية لنحو أكثر من عشرين علما من هذه الموسيقى.

نعم إنه الجنون بعينه وتحد فريد من نوعه في العالم، ذاك الذي تصر عليه أوركسترا النور والأمل المصرية. يبدو الأمر غريبا ومثير للغاية ذلك الاصرار الذي تراهن عليه هذه الفرقة الموسيقية التي تتألف من أكثر من خمسين سيدة كفيفة تنشد عزفا راقيا. حضور متميز فوق الخشبة وثقة كبيرة في النفس. فرقة متناغمة وعزف بديع. عزف أثار تصفيق جمهور عريض حضر العرضين اللذين أحيتهما الأوركسترا في كل من العاصمة الألمانية برلين ومدينة البحر هامبورغ بالشمال الألماني.
سيدات ضريرات يتحركن كجماعة، كل واحدة منهن تتلمس الخطى وهي تمسك بيد الأخرى، والله وكيلهن. قديما قيل الحاجة أم الاختراع. ولعل الضرر مبعث قوة هؤلاء النسوة المتحجبات الآتيات من ذلك الشرق، لا زاد لهن سوى مخيلة تحفظ عن ظهر قلب وأنامل تجرح الكمان وآلات وترية أخرى فيخرج الصوت باذخا يشدو الألحان، في حين أن أخريات ينفخن في آلات النفخ فترسل أصواتها منسابة لتلتقطها الآلات الايقاعية ليحول العزف إلى طرب ملائكي.
فاطمة ومروة وجيهان ومريم ونهلة وطاقات أخرى منهن شيماء يحيى زكريا، إحدى عازفات الكمان، يرفعن التحدي، شعارهن ‘الموسيقى هي طريقي وإصراري في الحياة’.
حكمة صينية تقول إن الموسيقى هي اللغة الأم الأولى للانسانية، وكذلك كان في تلك الأمسية التي أمتعت فيها أوركسترا النور والأمل الحاضرين. عزفت كفيفات الفرقة بدءا من إرادة الحياة التي رفعها حلاق إشبيلية لصاحبها الايطالي جواكينو روسيني والتي انتهت بانتصار الحب، أو من خلال السمفونية رقم 40 لموتزارت والتي تعتبر من اشهر السيمفونيات في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية. وختاما بباليه زوربا التي تتميز بالإبهار وتكامل العناصر الفنية للموسيقي العالمي ميكيس ثيودوراكيس. إنها معزوفة تعبر عن الاندماج والتعايش مع الأحداث التي تدور بإحدى قرى اليونان وتحكي عن الرحالة اليوناني ‘زوربا’ الذي يعشق الحياة والتمسك بها على إيقاع موسيقى ورقصة ‘الحياة’ المشهورة باسم ‘زوربا’، دون أن تنسى الفرقة أصواتا عربية تركت بصمة كبيرة في تاريخ الموسيقى العربية، كأبو بكر خيرات وأحمد أبو العيد ورياض السنباطي.
تأسست جمعية الأمل والنور في العام 1954 كأول إطار في الشرق الأوسط، حمل على عاتقه رهان رعاية وتأهيل وإدماج المرأة في المجتمع. وفي مطلع الستينات تأسس معهد الجمعية الموسيقي الذي انطلق بخمس عشرة فتاة لتعلم أصول الموسيقى. المعهد تطور وأصبح الآن يضم أكثر من خمسين عازفة محترفة. وقد تأتى ذلك بفضل إشراف أمال فكري نائبة رئيس مجلس إدارة الجمعية، على فرقة الاوركسترا لأكثر من أربعة عقود. تعتبر فكري أن الرسالة من وراء هذه التجربة الفريدة في العالم:’ إنهن بنات شرقيات محجبات، تعلمن ودرسن الفن. إنهن نافذة أمل مشرعة على المستقبل’.
تجربة فريدة تلك التي دشنها المعهد الذي يعتمد على الحفظ، فالحاجة أم الاختراع كما يقال. تشرح العازفة شيماء المسار الذي قطعته هي ورفيقاتها في المعهد: ‘التحقت بالمعهد قبل إثنتين وعشرين سنة، وكان عمري وقتها ثماني سنوات، وكان ولا يزال الحفظ هو طريقتنا الوحيدة. وذلك بواسطة طريقة ‘برايل’، التي تحول النوتات إلى إشارات وحركات نتلمسها ونعتمد عليها في دراستنا’. لقد تمكنت الاوركسترا من كسر المألوف في فن الأوبرا وهو العزف دون نوتات وبدون قائد يقف أمام الفرقة على الخشبة ليدير العزف والعازفين بعصاه المعهودة. عوض ذلك يقف الدكتور عصمان علي، قائد الفرقة منذ العام 2000 للحظات أمام الفرقة وأحيانا خلفها، ليطرق بأصابعه طرقتين معطيا الانطلاقة. بعدها ينساب العزف رقيقا في بعض الأحيان، أوصاخبا في أحيان أخرى، بحسب المقطوعة الموضوعة على البرنامج الذي يضم أكثر من عشرين عازفة واللواتي حفظنه عن ظهر قلب. بكل تأكيد أنه جهد إضافي بالنسبة له. إذ يتابع من خلاله كل عازفة على حدا، لأن الإشكال الذي يطرح أمامه كما يقول: هو العزف ضمن الجماعة، فكل واحدة بإمكانها العزف بمفردها. لكن العزف بشكل جماعي يطرح صعوبات إضافية’. أما عن الرسالة الحضارية التي تحملها الفرقة للمصريين على ضوء ما تعرفه بلادهم الآن، فتصرح العازفة شيماء، صاحبة الليسانس في الألسن: ‘لا تنظروا للنصف الفارغ من الكأس فقط’. إنها إرادة الحياة التي اقترحتها الأوركسترا. إرادة تبلورت منذ العام 1987، عام النضج الفني للفرقة كماا ترى أمال فكري المشرفة على المعهد الموسيقي. إنها السنة التي اكتملت فيها معالم العزف الاحترافي، لتبدأ بعدها رحلة العروض العالمية. وكانت الانطلاقة من العاصمة فيينا التي زارتها الفرقة في العام 1988، لتصل الآن إلى 28 بلدا من القارات الخمس. ولقد توجت هذه الزيارات بحدثين تركا أثرا بالغا في تاريخ الأوركسترا، الأول في العام 2008 حين عزفت الفرقة في مقر اليونيسكو في باريس بمناسبة الذكرى الستين للاعلان العالمي لحقوق الانسان، والثانية جاءت بعد عام من ذلك، وفي البلد نفسه، ولكن هذه المرة شرق باريس وتحديدا في بلدة تحمل إسم كوفري، مسقط رأس لويس برايل مخترع كتابة برايل للمكفوفين. وكان ذلك على شرف الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة الذكرى المائتين على ولادة برايل. إنها رحلة مميزة شعارها وإن ذهب نور البصر، فإن نور البصيرة أبقى وأعمق.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة