الخميس 2024-12-12 12:49 م

التشكيلي المغربي حسن المقداد: الحفر في ذاكرة اللون والأثر

10:01 م

الوكيل - ترفدنا الأعمال التشكيلية للفنان الفنان حسن المقداد -من مواليد الدار البيضاء عام 1952- رؤى متعددة في أسلوبه الصباغي وخطابه الأيقوني ضمن تعبير مفتوح على كثير من الاجتهاد التقني. هذه الأعمال التي تتحرَّك ضمن منظومة فنه، تتنوَّع في إيحاءات الملمس عن طريق اللون والمادة بكثير من الإيمائية والإشارية المشتعلة والمتدفقة..

فباطلاع سريع على اللوحات الصباغية التي ينفذها الفنان المقداد ليكتشف تكوينات ملونة تكسوها التخطيطات أو ‘الخطوطيات’ (من الخط) وتتعاضد فيها آثار وبصمات جمالية سوداء وزرقاء داكنة (الأنديغو) تعتريها حمرة وصفرة في بعض الحواشي تقرِّرها تحريكات فرشاة مشبعة ومقدرة على إيقاعات كاليغرافية حرَّة..متطايرة تمنح اللوحة صفة ‘الحروفية النصية’ Textuelle الأقرب إلى الترميز بدل الإفصاح، الأمر الذي يجعلها -اللوحة- لا ترسم حضور الأشياء بقدر ما ترسم غيابها..
لذلك تظل التشكيلات الكاليغرافية (التجريدية) التي يوظفها الفنان المقداد تعطي لقارئها انطباعا بأنها تتزحلق..وبأنها تكاد تكون ساكنة في عمق الذاكرة الأثرية..الذاكرة التي يتم الاشتغال عليها كثيرا بعمق إشعاعات اللون الأزرق السائد والأشكال المكورة المتراكبة وشرائط الألوان الغليظة وأشياء أخرى أمست تشكل العلامات الرئيسية المكونة للقطع التشكيلية التي تختزل مشاعر الفنان المقداد. أما المشاعر الأخرى التي تبعثها اللوحة إلينا -كقراء بصريين- فلها طبيعة مغايرة. من هنا يبدأ فن تشكيل اللوحة بما تفرزه المخيلة للمبدع (أو الإفرازات الرزقاء S’cr’tions bleues بتعبير الفنان المفضل) انطلاقا من تاريخ الطفولة وذاكرة البداية..
امتدادا لذلك، تحيل بعض لوحاته (قليلاً) على العوالم الصباغية عند الفنان الأمريكي سي تومبلي Cy Twombly (1928) في حركات فرشاته وفي عفوية تلوينه، وتتقاطع في جوانب مع إبداعات الجماعة الفنية أسسها الفنان الكاتالاني أنطوني تابييس Antoni Têpies (1923-2012) المسمَّاة ‘دوالسيت’ Dau al set، والتي كانت تضم فنانين إسبان يبدعون في التجريدية الغنائية الموازية لموجة التجريدية التعبيرية في أمريكا، والذين يجمع بينهم الاشتغال على المادة والخامات الطبيعية والعمل على إعادة تأهيل المواد والقطع والآثار المهملة..
ووفقا للصيغ التعبيرية التي يخضع لها بناؤها، يصح القول بأن اللوحة عند الفنان المقداد ليست سندا ماديا تتجمع فوقه وحوله الخطوط والآثار اللونية المتناثرة، قدر ما هي فضاء جمالي Espace esth’tique يتحول فيه الصامت إلى ناطق..والناطق إلى صامت بالشكل الذي تتفاعل فيه المفردات التعبيرية/العلامات الخطية داخل مضمون صباغي أصيل ومبتكر يروم الارتقاء بالمستوى البصري للمادة، أو الواقعية الشيئية، بتعبير الفنان العراقي الراحل شاكر حسن آل سعيد.
فبمدركاته الفنية الراقية وبفكره الراكض نحو البحث والتجريب الجمالي المعاصر، راح الفنان التشكيلي حسن المقداد يعتمد الكتابة العربية في تكويناته الجمالية بعد أن يجرِّدها من دلالاتها اللغوية لتصير علامات ورموز ومفردات غير مقروءة تتجسد في تجريد صوفي مطلق. وعبر تكثيف المعنى للمضمون، يرسم للتصوير التجريدي أثره ضمن تدشينات لونية متتالية قائمة على استحالة الإفصاح بفعل تداخل الروافد وعناصر الخبرة التلوينية.
فعبر الكتل والمقطعات المساحية التي يشكلها الفنان داخل فضاء اللوحة، تستوقفنا هذه العلامات والرموز التي دأبت على التحوُّل في جوهر هوائي واسع، وقد وجد فيها الفنان طاقة صوفية تعبيرية إضافية لما تتضمنه من نزوع إبداعي نحو المطلق واللامحدود..وميول صباغي يرسم في تمفصلاته المتعددة تأرجح اللوحة بين ذاكرة الأثر..وأثر الذاكرة التي يعبَّر عنها بألوان بصرية كثيرا ما تتعرَّى لتلبس أخرى ممزوجة بمؤثرات مادية ملمسية.
إنها تجريدية غير مقروءة أكبر من أن تكون مجرَّد لطخات صباغية أو خطوط متلاشية، وصنعة غرافيكية قائمة على فن الفعل في اتصاله بالواقع الموضوعي الذي يكوِّنه مفهوم الأثر الناتج عن خدوش وفوهات وتفسخات وكتابات نافرة تتبادل المواقع مع أخرى غائرة وغيرها من الأبجديات التعبيرية الأخرى التي يعالجها الفنان بأدوات خاصة كالمكبس والمعلوق، وذلك لتحرير اللون وإسباغه روحه وحيوته المفترضة.
ولأن ‘كل العلامات تميل لأن تكون وظيفية’، كما يقول بودريار Baudrillard، فإن حضورها في التجربة التشكيلية عند الفنان المقداد لا يمكن أن تصير إلا أكثر من ذلك، بحيث تجنح إلى تجاوز وظيفتها الأولية لتكتسب وظيفة أخرى داخل النسق الأيقوني العام للوحة. فهذه العلامات تشتغل داخل بنية النص التشكيلي كنظام يتوحد في الامتداد، وذلك وفق أسلوب صباغي مائل إلى الإقلالية والاختزال. من ثم تحيلنا اللوحة على صمت الأثر، وتتجه نحو الكشف عن المخفيات والممحوات داخل مساحات معتمة بنور. إثر ذلك تغدو اللامرئيات معادلا لأجواء لونية ضامرة منسجمة مع البواطن الداخلية للتوليف والتكوين الخاضعين للمواد المستخدمة في أداء العمل الفني.
صيغة أعماله الصباغية عموما تتجاوز تجريدات ما بعد الحرب العالمية الأولى واتجاهات الفن اللاشكلي Art informel الذي أرسى دعائمه الفنان فوترييه منذ ذلك الوقت، لتصير إبداعات جمالية تعبِّر عن محتوى غرافيكي حداثي يقوم على جمع الأضداد وتشذير العلامات الخطية بفعل لعبة الآثار والكتابة البصرية التي يستعملها الفنان المقداد، قبل أن يقوم بتحويل شظايا الفراغ وشحوبه إلى وضعيات تشكيلية مصاغة بلغة لونية متقنة تلامس كينونة الجذور والبدايات..
وكما لدى فناني حركة سنائد/سطوح: ‘موضوع الصباغة هو الصباغة في حَدِّ ذاتها’، فإن الفنان المقداد يظل مسكونا بالأصباغ (خصوصا صبغة الأكريليك) وبكيميائياتها المتعددة التي تسري فيها حيوات خفية ضمن تكوينات طيفية عفوية ومنتظمة في آن. فهو يصوغ مضمون لوحاته بالتنقيب في سرائر المادة واللون، عبر التهشير الخطي واللوني Hachures تارة، واعتماداً على المسح والكشط والدعك تارة أخرى لتوليد ألوان استعارية متحوِّلة على إيقاع تقابلات قزحية نوعية Contraste de qualit’ متولدة من المادة التشكيلية بشكل ممتد ومتواصل يحيلنا إلى ماضي الأشياء أكثر من راهنها وقادمها.
إنه، كغيره من التشكيليين الذين يهتمون بشيئية اللوحة، يولي اهتماما متزايدا للأثر الفني دون أن يكترث بالموضوع (بمعناه الكلاسيكي)، وكأنه بذلك يتناغم مع مقولة الناقد هربرت ريد: ‘إنّ الحكم على العمل الفنّيّ في ضوء مضمونه، سبيل يؤدّي إلى تدخّل كلّ أنواع الأهواء والتحيُّزات التي لا صلة لها بالأمر’ والتي أوردها في مؤلفه الشهير: ‘معنى الفن’.
ففي لوحاته تفحص مصائر العلامات بحس تأويلي للتجريب، بتكثيف المعنى للمضمون، وبتحويل المخفي إلى المعلن، والضامر إلى الظاهر وفق صيغ تعبيرية راقية تجاور مهارة الفنان وثقافته التشكيلية الواسعة التي اكتسبها خلال تدريسه لتاريخ الفن لسنوات بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء وأيضاً بشعبة الفنون التشكيلية بالثانوية التأهيلية الخنساء.
الخلاصة أن الفنان حسن المقداد يظهر في جل لوحاته حروفيا تجريديا حداثيا متمرّسا له دراية متقدمة بالعناصر التشكيلية والمفردات الجمالية التي يوظفها، وملوِّنا كبيرا Un grand coloriste تشتعل فيه جذور الخلق والإبداع، الأمر الذي يجعل منه علامة مضيئة داخل ساحة الصباغة المعاصرة في المغرب.
ناقد تشكيلي من المغرب


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة