الخميس 2024-12-12 09:39 ص

التمثيل الإعلامي بالضحايا

08:38 ص

ملايين البشر حول العالم تابعوا أخبار الهجمات الإرهابية الأخيرة في العاصمة الفرنسية باريس، والتي خلفت نحو 133 قتيلا ومئات الجرحى. محطات التلفزة كانت تبث على مدار الساعة، ووسائل الإعلام الإلكترونية تنقل الأخبار دقيقة بدقيقة، ومثلها صحف ومواقع التواصل الاجتماعي. هل شاهد أحدكم خلال هذه التغطيات المكثفة، صورة لأحد قتلى أو جرحى التفجيرات؟

صورة واحدة التقطت من مكان مرتفع لقتلى مسرح 'باتاكلان'، ونشرها موقع 'فيسبوك' لفترة وجيزة قبل أن تتدخل السلطات الفرنسية وتطلب شطبها.
لم نشاهد كاميرات التلفزة الفرنسية تتجول في المستشفيات لتصور المصابين، ولم تنشر صحيفة فرنسية صورة واحدة لأشلاء مقطعة أو جرحى تغمر الدماء وجوههم، ولم تقدم وسيلة إعلام على انتهاك القواعد بهذا الخصوص. لا شيء من ذلك حصل. على العكس تماما من تغطيات وسائل الإعلام العربية لأحداث مشابهة تقع في منطقتنا.
هل صدف أن شاهدتم نشرة أخبار على فضائية عربية، لا تتضمن لقطات مطولة لجثث أطفال ونساء مشوهة بعد انفجار هنا، أو قصف هناك؟
ليس الإرهابيون أو الحكام المستبدون هم من يستبيحون حياة البشر في عالمنا العربي، بل وسائل الإعلام أيضا، التي لا تقيم وزنا لحرمة الموتى ومشاعر ذويهم، وتحط من كرامة البشر في لحظاتهم الصعبة، وتتفنن في نشر صورهم وقد تشوهت، ولا تتردد في تكرار تلك الصور واللقطات عشرات المرات في اليوم الواحد، حتى تحولت تلك المشاهد إلى روتين يومي لملايين المشاهدين، ما عادوا بعدها يشعرون بقيمة للحياة وكرامة البشر.
وسائل الإعلام العربية التي تعاني من استقطاب سياسي وطائفي حاد، تسعى من وراء نشر الصور المؤلمة التي تتعدى على خصوصية البشر وآدميتهم، إلى تعبئة الرأي العام ضد الخصوم؛ المعارضون للنظام السوري، يوظفون مشاهد القتلى من الأطفال والنساء، لإظهار وحشية النظام، ودعم المطالبين بإسقاطه. ووسائل الإعلام المؤيدة للنظام تستخدم الأسلوب نفسه، للبرهنة على أن معارضي النظام هم إرهابيون متوحشون يقتلون بلا رحمة. وهكذا يقتل الأبرياء مرتين؛ مرة على يد الأطراف المتصارعة، ومرة على يد وسائل الإعلام التي تتاجر بآدميتهم انتصارا لهذا الطرف أو ذاك، وتحتفل بالقتل والموت على حساب الحياة وقيمها الإنسانية، في خرق فاضح للقواعد المهنية والأخلاقية التي تحكم عمل وسائل الإعلام.
إننا أمام حالة غير مسبوقة من الانهيار الأخلاقي في وسائل الإعلام العربية، بلغت حسب اعتقادي حد 'التمثيل الإعلامي' بضحايا الصراعات، والذي لا يقل خطورة عن التمثيل الفعلي بجثث الضحايا؛ ترويع المشاهدين بمشاهد صادمة، يخلف أثارا بالغة الخطورة على نفسية المشاهدين، خاصة الصغار منهم.
واجب وسائل الإعلام نقل الحقيقة كما هي، وهذا ما لا يحدث في الغالب عربيا. لكن من قال إن الإعلام في الدول المتقدمة يجور على الحقيقة عندما يمتنع عن نشر صور الضحايا؟ ثمة ألف طريقة لنقل الحقائق للمشاهدين، من دون التعريض بالضحايا والمس بحرماتهم.
لقد كانت أشكال التضامن في شوارع باريس وميادينها مع ضحايا الهجمات الإرهابية، أقوى وأشد تأثيرا من الصور البشعة لجثث ملقاة في مسرح الجريمة بطريقة مهينة ومزرية. مشاهد الناس وهم يشعلون الشموع على أرواح الضحايا، تكفي لأن تجعل كل واحد فينا يعتصر ألما، وحقدا على الإرهابيين، أكثر من تلك المشاهد المروعة التي تبثها الفضائيات العربية، والصور التي تنشرها الصحف العربية.
كرامة الإنسان العربي في أكثر من بلد تهان في حياته ومماته


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة