الأحد 2024-12-15 14:38 م

الحياة خارج النص!

07:32 ص

في كل مرة يحاول فيها أن يكون 'غيره' تنتابه غيرة شديدة على نفسه، ويتمسك بتلابيب تفاصيله الدقيقة، حتى لا تتوه منه قطعة ما، كانت ستنقذه بالتأكيد من الضياع.



يمل كثيرا من مقتضيات الحياة التي تسارعت أمام ناظريه بسرعة البرق، ويتأفف بينه وبين حاله من وقع الخطى الثقيلة رغم جنون الحركة من حوله. ينام ليله منتهيا من التعب، ويعد جسده غير المتعافي من وهن العمر وانكماش الحلم، أن غدا سيكون مختلفا في كل شيء.


تسعده هذه الوعود الخلابة وكأنها واحة خضراء تستريح تحت ظلال سعفها روحه التواقة للاختلاف. ويظن كل ليلة، أن مجرد الحديث مع الروح عن الأشياء القادمة كفيل بأن يزحزح عن كتفيه تصلب الجمود، وتبيس الأمنيات.


في الصباح، وكأي صباح، يفتح عينيه على سقف غرفته الرمادي، متجنبا النظر إلى بقايا أحلامه على الوسادة. فهو يرى أنه غير جدير بالمحاولة، طالما ما يزال غير جاهز لها. يقوم مثل أي نهار يعده بالرتابة غير متثاقل من التكرار، يشرب قهوته على مهل ويقرأ عناوين الجريدة ويتفحص الإعلانات ذاتها، التي تستأنس أن تخاطب الاعتياد بوعود التبديل والتغيير والحياة الأفضل. يستغرب أحيانا، كيف يكون لشاشة تلفاز ذات الاثنتين والأربعين بوصة، سحر قلب حياته رأسا على عقب، فيما الأخبار ذاتها إن لم تصبح أسوأ، والبرامج الحوارية نفسها إن لم تهلل أكثر. ويشك كثيرا في رحلة أربعة أيام وثلاث ليال إلى إسنطبول أن تصنع فارقا، طالما ستحط الطائرة به من جديد في رحلة العودة إلى حياته!


يقوم من سخطه الصباحي على جولته الإخبارية ليستقل سيارته المركونة في المكان ذاته، مقررا أنه اليوم سوف يسلك طريقا آخر، تبعا لتوصية نجوم التنمية البشرية، الذين يحسنون صنعا، حسب رأيه، لو أنهم ينزلون إلى الأرض قليلا، من غيومهم البيضاء. لكنه يجد نفسه منسحبا على الطريق نفسه، وكأن عربته تسير بقوة الدفع وسط الزحام، بدون أن يكون لقائدها رأي في الحركة.


يمر يومه كله وهو على هذا المنوال، يصارع ما بين بقائه حافظا للنص، وما بين رغبته المشروعة في فهم ما يجري حوله.


الأسئلة الوجودية بدأت تأكل رأسه فعليا بعد أن جاوز الأربعين من عمره، وهو يشاهد من هم في مثل سنه تقريبا ينادونه بـ'يا عم'! يحاول أن يستوعب وقع الأيام على أطراف عينيه وحول شفتيه، ويسأل نفسه أنه كيف هو، ولماذا هو وماذا هو أساسا؟


هذه تقريبا حال آلاف المصطفين بجانبنا على إشارات المرور التي لا تفتح، وفي ممرات الأسواق الكبيرة فوق عربات التسوق، وعلى مقاعد انتظار دور شباك البنك، وفي عيادات السكري والغدد الصماء!


نراهم سارحين سائحين في ملكوت الله، ينتظرون شيئا ما يحركهم إلى الأمام خطوة، وفي نفس الواحد منهم رغبة دفينة خجولة للقفز العالي فوق كل محطات التوقف المقيتة. في حناجرهم صراخ مدوّ على الألوان الحمراء وشاخصات التوقف، وفي صدورهم زفرات عاصفة على سجن الاعتياد ومكعبات الرتابة.


نراهم ونستشعر بهم، يتوقون للدهشة غير المرهونة بالكوارث، يتمنون لو أن فرحا ما يختبئ خلف الجدران الاسمنتية والافتراضية، يحرك في وجدانيهم شبابا متمردا جميلا وسعيدا.


لا يعرفون بالتحديد ما مصدر السعادة التي يمكن أن تحقق لهم الاختلاف، لأنهم باختصار لم يجربوا منذ الأزل، أن ينكشوا بيت النحل ويهربوا، أو أن يدقوا على الأبواب ويختبئوا!


الخروج على دائرة الحياة المرسومة، لا يتطلب شجاعة في القلب وعنفوانا في القرار وحسب. إنه ويا للأسف، نص يكتب من جديد يخرجنا من حلقة الخوف، يلزمه أولا ملكة الكتابة، وليس القراءة فقط!


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة