الإثنين 2024-12-16 05:39 ص

‘النهر قرب المدينة’ لصلاح الدين بوجاه: اشكالية الهوية والحداثة

11:47 ص

الوكيل - يتشبث الروائي صلاح الدين بوجاه بجمالية السرد في تجلياتها المختلفة ،إذ لا يجد قارئ أعماله الروائية عنتا في استكشاف أساليب سردية تلتحف بالنص /الحدث/المشهد وتتخلل تجاويفه لتضفي على إنزياحاته أبعادا يهيم فيها السارد بالواقع حينا ويرتد فيها من خلال السرد إلى صور خيالية وأسطورية يستدعي من خلالها الرمزية في تكثيف فني وأسلوبي متصاعد للنص يكاد لا تنكفئ نهاياته المفتوحة إلا على بداياته المثيرة في ظل نسق دائري مشبع بالوصف والتشكيل يستجمع شتات الذاكرة /المكان/الزمان وما يلفها من تداعيات للــذات وجراحاتها المنكئة والامها الجارفة مثلما هي محنة المبدع الملتحم بالكتابة ونشظياتها المكنونة .

في روايته الأخيرة ‘النهر قرب المدينة’ (**) ظل بوجاه وفيا للنمط السردي الذي شتهر به منذ أولى أعماله القصصية والروائية التي صدرت منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي . فالسرد في تجربته أسلوب روائي ومسار للحدث الروائي يستجمع شتى الأدوات الفنية والرمزية في نسق دائري واقعي وعجائبي يمتزج في ثناياه الواقعي بالأسطوري والعجائبي مما يجعل نظرة القارئ تنساب مع النص/الحدث انسيابا شفيفا ويكون المشهد الروائي سلس الانقياد ومطوعا للاستكشاف والتحليل.
تدور الأحداث الرئيسية لهذا العمل الروائي في حي من الأحياء الحديثة في مدينة القيروان هو ‘المنصــورة’، وهذا الحي العصري الكبير يقف شامخا في الجنوب ينفتح على تخوم المناطق الريفية ومناطق السباسب المفتوحة والأنهار وحركة الفلاحين التي تعطي إلى الطبيعة /الحياة /الماء معنى متجددا عبر الفصول . هذا الإطار المكاني الذي تدور فيه الأحداث الروائية وصور المدينة العصرية المغرقة في إنتاج المدنية (السيارات، ورش ميكانيك، الشقق، المحلات العصرية …) لا يكاد يمحي حضور معالم الريف على بعد أميال قليلة، لأن الحياة الريفية القيروانية البسيطة مازالت تلقي بظلالها على مخيال السارد وتداعياته (النهر، الجسر، الضيعة، الحمادة، الصبار، الذئب، البقر…) فالريف برمزيته وأبعاده يكاد يكون عنصرا من العناصر المركزية للمكان في أعمال هذا الكاتب الروائي والقصصي (1).
إن القارئ لرواية ‘النهر قرب المدينة’ يستكشف منذ العنوان علاقة إشكالية بين الزوج المفهومي: النهر/المدينة. تنذر هذا العلاقة بإمكانات متعددة ومختلفة من التحاور الى التلاقي إلى التنافــــر والتضــاد وربما الصراع بين عالمين: عالم الطبيعة والحياة البسيطة وعالم العصرنة والحداثة وتعقيداته التقنية وإفرازاته الإجتماعية والحضارية. وتتداعى هذه العلاقة المعقدة بين الريف والمدينة على شخصية سلبم هذا الطالب /المثقف الذي أغراه حلم الحداثة والحياة المعاصرة بالسفر إلى مرسيليا لدراسة الهندسة الفلاحية ثم العودة إلى المنصورة /القيروان لتحديث فلاحتها والنهوض بالزراعة في حقولها: ‘الليل وشجرة الأوكاليبتوس وطائر الغسق وأطياف السطح وتنوعات الكائن الواحد… شجرة الأوكاليبتوس طويلة تحرس البيت الحالم، ظلــها وغموضها يغريان الليل بأن يكون أوسع ويشجعان سليم على الحلم …’(2)
إن العلاقة الإشكالية التي رصدناها بين البعدين المضمونين صلب النص الروائي والتي تتمثل في صراع خفي بين الاتجاهين، اتجاه الحياة الإنسانية البسيطة بكل ما يحمله الريف/ الطبيعة من دلالات ورمزية، واتجاه أخر مغاير يرنو إلى الحداثة والإندماج في الحياة العصرية بوجهها التقني والغربي تبدو حاضرة بقوة في هواجس البطلين الرئيسيين: سليم نورة اللذين عاشا لحظات حب صافية إنتهت بالزواج بعد عودة سليم من فرنسا إلى القيروان .وذلك رغم اصطدام الحلم/الحياة العصرية والنمط الأوروبي أحيانا ببعض التجاذبات (الخصومة حول مستقبل إبنتهما هند وسفرها للدراسة العليا بفرنسا مثلا) الطارئة التي تتخلل مسار الأحداث التي تدفع سليم /المهندس/المثقف الى المساهمة الفاعلة في النهوض الاقتصادي والاجتماعي بمدينة المنصورة.
يمكن لقارئ هذا النص الروائي الطافح بمشاهد وصور سردية تتمازج أحيانا باللوحات التشكيلية المعبرة أن يقف على أبعاد عدة لدلالات الحلم وعلاقته بالواقع في هذا السياق السردي،من ذلك ما يشقه أحيانا من تدخل للسارد/ الراوي وإثارته لقضايا اجتماعية وحضارية ثانوية تلقي بظلالها على دور الكاتب-المثقف الذي يعيش في مجتمع تطحنه أزمات كثيرة: أزمة الهوية-أزمة التعددية-أزمة الأصالة والحداثة…إلا أن هذه الأزمات الاجتماعية والثقافية التي أفرزتها الحداثة والتقنية لا تخص المنصورة أو القيروان أو تونس وحدها إنما هي مشكلة إنسانية معقدة حاضرة في كل المجتمعات البشرية المعاصرة: ‘بعد تلك الأيام وقعت أحداث جديدة …اكتشف المحققون أن دكاكين الميكانيك تسهر حتى ساعات الفجر الأولى، وأن الشبابيك الخلفية تسرب أنواعا من الحشيش التونسي المتداول في أوساط الشباب. كما ثبت أن ورشات أخرى تستقبل بعد إغلاق أبوابها نساء وشابات وأن غناء كان يسمع حتى آخر الليل’(3)
إن ما بين استهلال السرد الروائي بمشهد لانبثاق الحياة/ الوجود والإنسان يغمره الحلم/النهر، واتساع الحلم إلى آفاق مفتوحة: ‘نورة وسليم قريبان رغم أن النهر يفصل بينهما،والد نورة ضيعته غرب النهر، هنا انبثق وجوده ووجود الكائنات حولهما.في البدء كان النهر وفي الختم سوق تكون الأحياء الجديدة حول المدينة غير البعيدة’(4) وما بين اختتام المسار السردي في هذا الاتجاه يبقى الحلم مفتوحا على الزمن ودوراته حيث تلتحم الإنسانية بجراحاتها المثخنة وترتفع إلى آمالها القادمة: ‘الرجاء معقود بناصية الأيام المقبلة، ذهب الحزن الأول وحل محله هم ثقيل لا لون له. لقد دارت الأيام دورتها، وهذا النهر يتوسد صدر جسر الحديد ويغني، الأغنية موقعة للنسيان والريح والفوضى، يغني ‘لهند، للمستقبل’(5(
(3)م،ن.ص126.
(4)م.ن.ص13
(5)م،ن.ص190

(*) كاتب وباحث تونسي :ammarouni@yahoo.fr
(*) روائي وأستاذ جامعي مختص في النقد الروائي والأدب الحديث بكلية الأداب والعلوم الإنسانية بالقيروان
(**) دار الحوار للطباعة والنشر والتوزيع، اللاذقية، سوريا 2010

(1) أنظر مثلا: سهل الغرباء (مجموعة قصصية) لصلاح الدين بوجاه/دارسيراس للنشر تونس 1996
(2) النهر قرب المدينة: ص 69


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة