الخميس 2024-12-12 13:19 م

صورة الشاعر على الحائط…

04:28 م

الوكيل - صورة الشاعر تصنع لها اطارا وهميا على الحائط، لكنها تفترض لها مجدا باذخا في اللغة، اذ يمثل الحائط السكون والموت، وتمثل اللغة التوليد والسيرورة..عند نقائض هذه الثنائية يستعيد الشاعر كينوته/ جوده في اللغة، تضعه في سياق سيرة مفتوحة، سيرته وهو ينزع علامات موته من الصورة، ليدّسها في اللغة، لذلك لايطمئن هذا الشاعر لوجوده خارج هذه اللغة، لانها جوهر وجوده الهيدغري في البيت والمعنى، مثلما هي قفص نقائضه، ورهان سؤاله الفلسفي، واغتراب وعيه الشقي..

الشاعر السرياني يمارس لعبة استعادة الصورة بغواية، وبتماه تعويضي، وانشداد حسي عميق، اذ هي فضاء لسيرته الشعرية، وللعبته الفائقة في معاندة الموت، مثلما هي حافظة لرمزية ايقونته المسيحية، وكاشفة عن احساسه بالتفوق عبر اللغة، حيث يتحول هذا الاحساس المتفوق الى ما يشبه انتهاك الوجود، وتفخيم الذات. تلك المواجهة تنشطر الى مواجهة رعب ثنائية بين الخطيئة والطهر، اذ تدفعه للمزيد من الصراع، والمزيد من الغواية والعري ومواصلة السيرة خارج صورة الحائط، وباتجاه التلذذ بالمزيد مما يكشف، ما يرى وما يعترف. هذا الكشف هو محموله السيميائي، وزوادة رحلته، وقناع صورته المرآوية، وشفرته الدافعة لاستكناه فكرة الاغتراب التي يعيشها المسيحي السرياني في المكان والمعنى والمقدس، اذ تتحول اللغة بوصفها خطابا في السيرة والنص الى لعبة في اصطناع المضاد الاغترابي، او سحر القوة الاستعادية الواهبة، المعرّفة بسرائر قاموسه وطقوسه، والى صوته/ندائه الانسانوي المتماهي مع الغائب، الحمائي، الفادي، المؤول لشفرة اعترافه الكنائسي الذي يوحي له دائما بفكرة الاعتراف والخلاص، مثلما يوحي باستعادة صورته العالقة في اساطيره القديمة، او لحظة انشداده الروحي الى عرفانية الصلاة والنشيد والاعتراف..
شاكر مجيد سيفو يأخذنا الى كشوفات ممضة في هذه العوالم، عوالم الجحيم والمطهر، البقاء، والمحو، السهو والحضور، اذ يتلصص من خلالها على صورته الهاربة من الحائط والمقبرة والمتحف- الباحثة عن مجد- باتجاه استدعاء صور موتاه الحالمين والهاربين من حيطانهم القديمة- الاب يوسف، الشاعر سركون بولص، الشاعر جان دمو- فهو يستدعيهم لاكمال مشهد السيرة، المشهد الذي تنقصه صورته، صورته التي لاتطيق الحائط، ولا تطمئن للتاريخ، والسيرة، ولا حتى للمرويات التي تضلله كثيرا، لذلك يمارس فرجته الاستعادية بنوع من الدانتوية الطهرانية توغلا او كشفا، او استدعاء استيهاميا للوجوه في المطهر والجحيم، تلك التي يحملها اصدقاؤه، والتي توحي بفكرة الخروج من الصورة، والهبوط المسيحي الى المريدين، تلك التي تتحول الى لعبته الاثيرة، لعبة الوجود، والخلاص، والسفر، والانعتاق، لعبة الايروس المولد، لعبة استعادة المعنى عبر اللذة، وكأنه يبحث من خلالها عن تلك الوجوه، وعن وجودها المجاور في اللغة والمنفي، اذ يتبدى له وجود اكثر امتلاء وسحرا، ذلك الذي تكتمل صورته في ما تستدعيه اللغة، وما تتركه تلك تلك الصورة/ الايقونة، من أثر يتوهم الشاعر، ويصطنع له السيرة والمغامرة والقاموس، يستعيد تلك الوجه بوصفه التعويذة التي لاتخونه، ولاتمارس معه الخطيئة..
قصيدة سيفو مسكونة بهذا الهاجس، هاجس الكائن المطارد، الملاحق، الباحث في تلك اللغة عن مجازات اشباعاته، عن اسئلته، اذ تتسع الصور فيها، بوصفها بنيات مولدة، واستعارات كبرى لسيمياء حياته وهي تتلبس اقنعة الاصدقاء الهاربين من الحائط والشاهدة، تلك التي يوحي بها كفكرة لمقاومة الموت والنفي والعذاب/ الصلب، فهو يسبغ على القصيدة شراهة احساسه بالخلود في اللغة، مثلما يسبغ عليها احساسه بالحضور الغامر لاستعادة المعنى، بوصفه لذة، او كشفا، او بوصفه احالة حسية للتلذذ باستيهامات سيرته عبر العديد من الاقنعة والاصوات، اقنعة الاسطوري، واليومي والشعري، حيث التناص مع الوجود التعويضي، الوجود المؤسطر، المتعالي، وحيث ما توهمه تلك القصيدة ايضا بالمفارقة، مفارقة وعي الشقي للمكان، والتاريخ، والحرب والمنفى..
يتمثل الشاعر سيفو عبر هذه التحولات في اقانيم القصيدة، الى استعادة اصوات الشعراء الموتى، كمقابل لاحساسه بالخلاص والامتلاء، اذ تبدو هذه القصيدة وكأنها رسالته الشخصية الى الاب يوسف سعيد، رسالة تقوم على استعادة المرئي، المرئي الذي يستعيد من خلاله صورته/ او خطاطته، او ايقونته، تلك التي تتساقط امامها هواجسه القديمة، هواجس الخائف الغائب، والمتمسك بذاكرة الاسماء، والامكنة المهددة بالنفي، والسهو، والاغيار، اغيار المسيحي التائه، المسيحي الملاحق والمنفي، لذلك هو يهرب من فوبيا صورة الحائط والصليب الى صورته الاستعارية الضاجة في اللغة، تلك اللغة الواسعة، المتشظية، اللغة الوفرة، والمقابلة لشحة الوجود/ الصورة المهدد بالسهو والموت، الوجود المحبوس في سردية ذاكرة الجثث، اذ يلخص الشاعر وجوده النقيض، عبر استعادة مجازية، يؤسطر فيها صورتي الموت الحياة، عبر تسحير الصورة الاسطورية، صورة الجسد اليقظ، الجسد السيزيفي الذي يمثل صورة مبكرة لفكرة الفادي الحامل لصخرة الخطيئة الاولى.
وأُطلُ من سهو ماطر وذاكرة جثث
يغرد لها الدود ويسهر على رائحتها
العنكبوت..
هذا المعنى الذي يستهل من الفعل (اطل) كشوفاته، يوحي بالاطلال على ذاكرة الصورة، الذاكرة التي تشبه الجحيم، او الاطلال على مأزقه الوجودي، وهو ما يدفعه للبحث لاستعادة فكرة التعويض في الشعري، او التلبس باقنعة الخلاص عبر اللغة، او للتوغل عميقا في استعادة فكرة القوة، بحثا عن وسيلة لاستحضار الصور التي تمثلها الجمل الفعلية/ جمل الحركة والنفور، وهي الصور/ الجمل النقيضة لهشاشة الحياة والموت والعتمة، اذ تستدعي هذه الصورة المستعادة نوعا من التعالق (السردشعري) اي مايشبه تقطيع صور السيناريو/ حيث الجملة الفعلية هي اللقطة، وان مركب هذه اللقطات هي مقابل لمركب الزمن، اي الوجود غير التتابعي، والذي يوحي بالاحساس بفوضى الشاعر ازاء الوجود اليومي، وباتجاه نقيض للتماهي مع الوجود الهيدغري الحمائي ازاء فكرة الطرد، النفي، التيه، وازاء الخوف من مواجهة عري مأزقه الانساني والوجودي، حيث يتواصل النفي في الامكنة، وتبرز صورة المسيحي التائه في الامكنة/ المنافي والباحث في اللغة عن شفرات حلولية، تعويضية لاشباع وجوده، اوربما لاستعادة وجوده عبر استعادة مايشبه عشبة خلوده الكلكامشي.. ولعل صور الشعراء الغائبين سركون بولص والاب يوسف سعيد وجان دمو تمثل للشاعر فضاء استعاريا للاستعادة، وقوة لهبوط الشاعر من الحائط الى اللغة ليصنع فيها خلوده، او ليواجه عبرها ميثولوجيا طرده ونفيه واغتراباته العميقة..
في قصيدة(الاب الشاعر يوسف سعيد امام باب الأبدية) يستعيد الشاعر شاكر مجيد سيفو صورة الراحل الاب يوسف سعيد من الحائط والايقونة والموت الى الوجود/ الحياة عبر اللغة، بوصفها تمثلا لاستعادة صورته الوجودية، فهو يمارس عبر هذه الاستعارة الصورية، استعادة يستنطقها عبر استعادة تفاصيل الشاعر المضادة للنفي والسكون وللموت، حيث مهيمنة الحضور/الاسم على الغياب، ومهيمنة الحياة/فنجان القهوة على الموت، وحيث وظيفة اللغة في هذا السياق- ازاء هذه المهيمنات- تتمثل عبر سلسلة من الاستعادات البصرية وعبر توالي اسماء الشعراء الموتى، بوصفها سيميائيات لاحتواء شفرة الاحساس بالخلود التعويضي، اذ تتحول هذه السيميائيات/ الاسماء الى مجسات يستدل من خلالها الشاعر على سرائر وجوده في المعنى، وعبر استعادة وجوده المتعالي من خلال استعادة بعض فيتشيات الشاعر الراحل والحاضر( فنجان القهوة المرة، طربشات الماء) بوصفها ارساليات الى الشعراء الموتى، شعراء خلوده الاستعاري..
هذه الاستعادة تعبر عن نفسها من خلال صورة تخطيطية، يصممها الشاعر لاستعادة حياته عبر سيرة الغائر في الغياب، او الواقف عند حافة المتاهة، او السهو، تلك التي يصطنع لها الشاعر مجالا للرؤيا، لايملك ازاءها الشاعر الاّ المزيد من الغواية، والمزيد من الاستعادات باتجاه ان يكون زمنه الشعري، او زمن الهروب من صورة الحائط، هو زمنه التعويضي او نزوعه التطهيري القائم على تعرية فكرة الخطيئة التي تطارد الشاعر المسيحي، اذ هو يستعيد هذا الشاعر من النفى الى الجملة الشعرية، يستعيده ليكلم نفسه، امام باب الابدية، واذ يستعيد معه المكان، فانه يستعيده بوصفه مكانا اغترابيا لا ينقذ صورة الشاعر من الموت والمنفى، بل يعيده الى لعبة التذكّر، والتي هي مماثلة لاستعادة داخلية اكثر اندفاعا للتفجّر الموسيقي، التفجّر الذي يمثل استعارة اخرى لاستدعاء فكرة الاعتراف..
بالأمس رأيت الأب الشاعر يوسف
سعيد، يكلّمُ ظلَّه
أمام باب الأبدية..
*****
بالأمس تذكرّتُ كاتدرائيَة كولون
فإنفجرتُ من الموسيقى،
كنت خارج المانيا..
*****
يضع الشاعر سيفو منظاره الشخصي لابراز صورة الشاعر المستعاد، عبر توظيف زمن مركب، وعبر توظيف تصويري يمازج فيه بين مستويات البناء، وبين دلالة الفكرة، تلك التي تقوم اساسا على سردية الاستعادة…هذا الاشتغال المركب على مستوى الزمن وعلى مستوى ابراز وظائفية السرد الداخلي داخل القصيدة اوما يسمى بـ(الميتاسرد) بوصفه تخيلا شعريا يضع القصيدة في سياق كتابة مايؤوله المنظور، المنظور الشخصي للشاعر، او المنظور التاريخي، او المنظور التخيلي…فهذه التآويل تتحول الى زمانات داخلية مركبة، لكنها تقوم اساسا على فكرة الاستعادة غير الخاضعة لمناسبة او طقوس، وعلى فكرة اقصاء الموت، اذ يتحول التأويل الداخلي فيها الى رؤيا تستجلي نقائض الاستعادة والموت، وكأنه يستعيد من خلاله منظوره لكآبته الشخصية، تلك تحرضه على استعادة الصورة من الحائط، والتماهي معها بوصفها استعادة للغائب، اوالتي تحرضه على مواجهة الموت بوصفه صورة للخلاص..
هذه التضادات والنقائض هي المجال الذي تنمو فيه القصيدة، بوصفها قصيدة تخطيط شخصي للشاعر، او قصيدة رثاء لوحدة الشاعر ازاء حائط موتاه، او منافيهم، او بوصفها قصيدة رؤيا يكشف من خلالها الشاعر هواجسه ازاء ما لايراه الميت والغائب في سيرته الضاجة بالنفي والعذاب والهجرات والصلب، والخيبة والغموض والثمالة…
البنية النثرية للقصيدة، تبدت عبر تشكلات مقطعية، كل مقطع يرسم لقطة، او مشهدا، وهذا التركيب يضيف الى البنية السردية نوعا من التوهج الداخلي، التوهج الذي يقوم به الشاعر من خلال تكثيف المونتاج الصوري، بوصف ان القصيدة قامت على فكرة بناء المشهد، المشهد الممنتج، والذي يقوم على تقنية الاسترجاع، وكذلك على تصميم المشهد عبر تصميم الصورة..
تركيب هذا المشهد يعني تركيبا صوريا، وتركيب مقاطع، لكنها في النهاية تخضع الى عين الكاميرا، عين الشاعر وهو يقدم لنا نصا شعريا يستعير تقنية عين فلليني السينمائية، العين التي تضع الواقع (الاسماء، الصور النمطية، الاماكن) امام تفجرات سحرية، تلك التي يصطنع لها الشاعر عبر الرؤية مجالا تنمو فيه، وكأنها فعلا مجال خاص للذات الشعرية وهي تصمم مشاهدها، او لقطاتها، تلك التي تبدأ من فكرة الاستدعاء، فكرة نزع الشاعر الميت الى الحياة لكي يقول شهادته على الموت والمنفى والمتاهة..
استعادة الشاعر لصورة الميت الهابط من الحائط، والذاهب الى اليوميات، او المنفى، هي استعادة وجودية لتلك الذات الفاعلة، الذات التي تواصل سرد رؤيتها، عبر ماتستحضره من المشاهد السينمية، الضاجة بالكثير من الاستعارات، والضاجة ايضا بالكثير من الموجودات، والكثير من الاسماء الوجوه، التي يستعيدها الشاعر لانها(معادله الصوري) المضاد لفكرة الموت او او المنفى، اذ تتجلى الوجوه/ وجوه الشعراء، بوصفها الوجوه التي تشاطر الشاعر كراهيتها المكوث في الايقونات او اطر الصورة المعلّقة على الحيطان، وهو مايمنح الشاعر حرية استعادة وجوده عبرهم، او عبر عبر مجال صوري وتعبيري يمثل سيرته الشخصية، سيرة الصورة النافرة عن الحائط، تلك الصورة التي يتامل فيها وجوه اصدقائه، الوجوه التي تسعيد من خلالها الوجود، الوجود اليومي، الوجود المؤنسن، الوجود الطهراني، الوجود المسيحي الباحث عن استعادات عميقة في المعنى والنص والمكان..


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة