الأحد 2025-01-19 13:16 م

فقط يُعْوِزه الحزن: حينَ تُولدُ القصيدةُ بعْدَ تَأَمُّلٍ طويلِ الْمَدى

12:55 م

الوكيل - (1) ستة عشرعاماً تقريباً تفصلُ ما بين الديوان الأول (وِرْدُ الصمت) للشاعر محمد أبو المجد وبين ديوانه الثاني (فقط يُعْوِزه الحُزْنُ)،وهذا يعني فيما يعني أموراً عدة..منها أن مرحلة حمل جنين القصيدة وتأملها لدى الشاعر يستهلك مساحة زمنية طويلة بل طويلة جداً.كما يعني أن شاعرنا قد مسح ـ بممحاةٍ نظيفة ـ من قاموسه الشعري كلمتيّ الاستسهال والإسهال اللتين جنيتا على الشعر في الآونة الأخيرة.

وكذلك يعني أن الشاعر ليس مَعْنياً تماماً ـ وبشكل مؤرِّق ـ بكمَِّ إنتاجه الشعري مثلما هو مَعْنيّ بكَيْفِه..وبهذا فهو ينظر إلى الشعر نظرة مغايرة لتلك النظرة التي ينظرها إليه كثير من الشعراء. وهنا يمكن لي أن أقول على لسان محمد أبو المجد: إن ديواناً واحداً جيداً يحمل توقيعي لهو أفضل عندي من عشرات الدواوين التي تُكتب في أيام قلائل وتُنسى في ثوان معدودة وبعد ذلك يظل أصحابها نادمين على كتابتها ما بقيوا على قيد الحياة.إنه يتبوأ في هذا الديوان مقعداً منعزلاً مبتعداً عن مقاهي الباقين الذين تتشابه نصوصهم حدَّ التطابق ليضفي على نصه /معشوقه الأثير مسحة شعرية تخصه وحده دونهم..ليولد النص حاملاً نكهة ومذاقاً ليس لهما اي صدى في الكتابات الأخرى.
ونظراً إلى أن القصيدة لدى محمد أبو المجد تستغرق فاصلاً زمنياً ممتداً فإنها تُولد مُحمَّلة بالصورة الشعرية غير المكرورة والفكرة الطازجة واللفظة الحية المناسبة ـ إلى أقصى درجة ـ في موضعها:
كيف لفنجان قهوة
أن ينفث دخان الحقيقة في وجهكَ
ويوزع مواطن الألم بالعدل
)المشوب بالتآمر(
على ساعات
ترصد انهياركَ بعين
وبالأخرى..
تبارك تخاذلك؟
(2)
إن هذه القصائد التي يضمها (فقط يُعْوِزه الحزن)..لا يمكن لقاريء أن يفك شفرات مغاليقها بسهولة ويُسر من دون أن يبذل جهداً في تأمل أسرارها وخباياها..غير أن هذا لا يعني ـ من جهة أخرى ـ أن هذه القصائد تُبحر في لُجَج الإنغلاقية أو يمِّ الطلاسم..بل على العكس من ذلك..هي فقط تحتاج إلى قاريء مُدرَّبٍ قضى فترةً لا بأس بها من حياته في معكسر التذوق والتلقي الشعرييْن حتى يكون ممتلكاً لمعطياتٍ تمكنه وتؤهله للوقوف في محرابها الشعري والتفاعل معها وبصحبتها كما ينبغي.
ومن هنا أقول إن القراءة السريعة غير المتأنية وغير المتأمِّلة لهذه القصائد من شأنها أن تظلمها ظلماً بيناً..ولا تقوم بالكشف عن جمالياتها الشعرية والبيانية والمجازية.
(3)
أول ما يُلفت النظر في هذا الديوان هو طريقة توزيع الأسطر الشعرية على فضاء الصفحة الأبيض..غير أن هذا التوزيع تم بشكل طيّع مما يُسهِّل تلقِّي القصيدة والتجاوب معها وبهذا هو لم يلجأ إلى الأشكال البهلوانية ـ التي يحتاج معها القاريء إلى مرشد يفسر له مغاليقها وربما لم يفهم ـ كما يفعل آخرون يقومون بتوزيع الأسطر الشعرية على فضاء الصفحة بشكل يصعب معه فهم من أين تبدأ القصيدة وأين تنتهي..وهذا يعني أن الشاعر قد استفاد من تقنية الطباعة لكن بشكل وُظِّف لمصلحة القصيدة وليس ضدها.كذلك تلفت النظر في هذا الديوان سلاسة الجمل والتراكيب الشعرية وانسجامية الإيقاع المرتبط بالحالة الشعورية للنص الشعري:
*عندما يخدش وعيي صمتك المفخخ
سيكون من السهل عليك
اجتياز حقول الكآبة
دون مقاومة متوقعة
أو خسائر..تُذكر.
*حدثها عن النيل
سترى في وجهه ضحكة (ساشا(
وستزغرد مياهه عندما تغمس إصبعها
كم من الوقت تريد
أيها العذاب
لتلتقي بالشمس؟
(4)
لا شك في أن قارىء قصائد فقط يُعْوِزه الحزن سيشعر برعشة تنتابه وهو ينتقل من سطر شعري إلى مثله ومن قصيدة إلى أخرى ومن تأويل دلالة مُكتَشفة إلى غيرها. هذه الرعشة ممتزجة بقدر من المتعة اللذيذة التي يحسها القاريء ويتذوق مفرداتها وهو يتعاطى نصاً يحمل فيما بين ثناياه كل وجوه الروعة والجمال.
كذلك نجد أن أبو المجد في ديوانه هذا إضافة إلى أنه مولع بالسرد الذي يتخذه ثيمة في معظم قصائد الديوان..نجده مولعاً باستخدام الصورة الشعرية المركبة التي تتجاور جزيئاتها الصغيرة لتكون في النهاية الصورة الشعرية في نسختها الأخيرة:
ما الذي منعك من طبع قُبلة هادئة
على إصبعها المنفلت من يدك
وأنت تصافحها.مودعاً
ثم تلصق إصبعها برفق..على شفتيها
وتخطف من عينيها نظرة عميقة
تعبر بك الغياب
الذي تهادنتما معاً.
(5)
في قصيدة ليلى يرسم الشاعر صورة جديدة لـ(ليلى) المعشوقة الأسطورية /الأنثى المُشتهاة /النصف الآخر المكمل لإنسان ليس عادياً..لإنسان شاعر..واصفاً إياها بالمرأة التي تزلزل غفوته وتتوغل داخله وتنتشي بروحه كما تحرض الشِّعر ضده وتربك عثراته المتفاوتة لمطاردة قصيدة تحاصره لليلة كاملة:
كيف أستدرج ليل عينيها..ثانية
وأتيقن من انفجار التاريخ عن أسطوريتها
فأقتنص في لحظة..
روحها البعيدة كبئر
والأليفة كعاصفة؟
ثم في نهاية القصيدة يصفها بأنها سر وجودي:
أإلى هذه الدرجة
يستطيع الله أن يهب عبداً
مثلي
سراً وجودياً..كـ(ليلى)؟!
(6)
كذلك نلمس في قصائد هذا الديوان حضوراً طاغياً للأنثى بمدلولاتها القريبة وبمدلولاتها البعيدة والتي تُوؤل وتُفسر بأشياء أخرى يتوق الشاعر إلي الوصول إليها وإلى الاقتران بها وهو يمارس طقوس الحياة بكل تفاصيلها.والأنثى ـ في مدلولها القريب ـ تشير إلى أكثر من كيان..فمرةً تكون هي الزوجة ومرة تكون هي الابنة ومرة أخرى تكون هي الأنثى الأسطورية والتي قد لا توجد سوى في الأحلام:
عندما تلمس يدك موطن الألم في جسمي
تنبت زهرة صبار بدلاً منه
ويهدأ (فزع إنساني(
كان يهددني بموت داخلي بطيء.
وفي موضع آخر يقول:
متى أرسم وجهك على قصيدة نثر؟
سأنشغل ساعتها عن تلك القصيدة
وعن الكتابة بشكل عام
فوجهك نافذة علوية.
ثم يطمع الشاعر أو يطمح في رحلة تَقَرّبه منها لأن تكون هذه الأنثى له وحده دون سواه وهو لا يكتفي سوى بهذا:
سأكتفي إذن بأن يصبح وجهك..
خاصاً بي
وسأخدع القصيدة
عندما أكتب فوقها
جهة اليسار قليلاً
اسمك!
والأنثى كما يراها في قصيدة أخرى هي كائن نصف خرافي وفضاء يشبه اليقين.أنثى تحسده عليها بقية الإناث اللاتي تشتعل صدورهن ببارود الغيرة ولا يملك هو سوى أن يصفها بكلمة Lady.إنها هي تلك الأنوثة التي تقوم بقهر صمته وثرثرته بكثير من اللاوحشية واللا عفوية وكذلك اللا تكرارية:
لم تكن مصافحة تلك
بل انفجار عدمي عرَّى تاريخي
وفضح أمامه محاولاتي الجامحة..
للنزوع إلى الأنثى.
إنها الأنثى التي وهبها الله شفتين تقدران على بث قدر حان من الحياة وليونة تضع الدنيا بين أصابع الشاعر وكأنها عملة معدنية يلهو بها.والأنثى في إحدى صورها في هذا الديوان هي الابنة (مهيا) وهي إحدى امرأتين تمثلان جنتين يصطرع الشاعر فيما بينهما:امرأة جئتُ منها وامرأة صغرى جاءت مني.
وها هو يقول في قصيدة تستطيعه مهيا جدا:
أَأُتيتِ الحكمة على غفلة مني؟
واقتنصتِ بهاء الروح قبيل الآوان؟
لماذا إذن تنامين ..؟
أَلِتسكتَ ربات الحكمة عن بوحها؟
لتغيظي شيطانيْكِ لبعض الوقت
أم لتقتلي مهرجان البيت..
بصمتك؟
(7)
كذلك تُمثّل الإسكندرية بالنسبة إلى الشاعر أنثى مغايرة يشتهي لقياها والبوح بما في دواخله أمام بحرها ليزيح أو يزيل عن صدره هموماً تجثم فوقه منذ أزمنة شتى:
أنت هناك لا تتذكر هيرودوت ولا قايتباي
وتنسى تماماً (زنقة الستات) ومنزل سيد درويش المهدوم
وتغيب عن وعيك محطة الرمل
وميامي و(المعمورة) الخاوية.
إذن ثمة وَلَهٌ يقطن في مخيلة الشاعر يدفعه دفعاً لمغازلة هذه المدينة ويحضه على محبتها:
سينمو عشب نادر على شاطىء كامب شيزار
وسيبهر المارة بابتساماته الرطبة
ويفاجئهم بضحكة عاشقة
ضحكة صغيرة
وسريعة ومنتَزَعة
تتوقف لها حركة المرور
وعبث الموج
وخشخشة الرمال..
في يكتبني فأعرف جسدي تقوم الذات الشاعرة بدور الأنا والآخر في الوقت نفسه..إذ تقوم بدور الأنثى بدايةً ثم بدور الذكر وتجري وقائع هذه القصيدة على طريقة المونولوج الداخلي:
ما الذي جرى لي..
أنا البنت المتيمة به..؟!
من سيعصمني من فوران تفاصيل هواه
ويقودني فوراً إلى مهربه؟
ويأتي الدور على الذكر ليعلن أنه يفتقد هذه الأنثى في افتقاده للمرأة التي أعادها إلى جسده هواه.هذا هو الذكر نفسه الذي يعشق الشِّعر والجمال ويمتلك جهازاً سحرياً يستطيع إبطال مفعول الموت.
(8)
وهكذا طوَّف بنا الشاعر محمد أبو المجد على متن ديوانه (فقط يُعْوِزه الحزن) في عوالم متباينة..رافقتنا فيها روح العاشق مصطحباً معه أنثاه التي هي بمثابة المحراب الذي يُولِّي وجهه شطره ومُحلقاً بنا في أفضية شتَّى احتسينا منها متعةً لا حدود لها وإن كنا قد عُدْنا منها بقليلٍ من الشجنْ .


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة