الأحد 2024-12-15 13:27 م

فكرة الإصلاح بالرجوع إلى الخلف

07:22 ص

الرجوع إلى الخلف وهْمٌ لذيذ يستبد بفئة من فئات المجتمع عندما يسيطر على الأمة الشعور بالضعف والتخلف عن قافلة الحضارة الإنسانية، وعند عقد مقارنة بين أحوال الأمة في ظروفها التاريخية المتعاقبة، من حيث القوة والضعف، ومن حيث الفاعلية وانعدامها، ومن حيث القدرة على الامساك بناصية العلم والمعرفة والقدرة على الاشتباك مع الانجازات الحضارية العالمية المختلفة في مجالات الحياة كلها، ومن خلال طرح الأسئلة الكبرى والبحث عن إجاباتها حول سر التخلف والضعف المستشري وأسبابه وعوامله، من أجل الوصول إلى التوافق الجمعي على إجابة السؤال الأكثر أهمية: من أين نبدأ؟



هناك فئة من حملة العلوم الشرعية تخوض هذا الجدل من خلال تمسكها بفكرة الرجوع إلى الخلف، وتحاول جاهدة إثبات وجهة نظرها واقناع بعض أصحاب الرأي والنفوذ في هذا المجال في ظل تزاحم الأفكار والطروحات خاصة بعد ظهور موجة التطرف التي الحقت ضرراً بالغاً بمجتمعاتنا، وزادت الطين بلّة عندما اصبحت تتحدث باسم الاسلام، وتنبثق هذه الفكرة من فلسفة إصلاح التعليم الجامعي في كليات الشريعة على وجه التحديد، بناءً إلى ظهور انطباع سائد في الأوساط السياسية والثقافية، بأن جذر المشكلة يكمن في هذه القضية على وجه الخصوص.


تتلخص هذه الفكرة التي تحاول معالجة هذا الواقع بفلسفة الرجوع إلى الخلف في طريقة تعلّم العلوم الشرعية ومنهجية تلقيها، من خلال الرجوع إلى «التمذهب والتقليد»، بمعنى إعادة فهم التلاميذ لمدارس الاجتهاد المستقرة التي ترسخت أصولها وقواعدها ومبادؤها في القرون الهجرية الأولى، وأصبحت تمثل الإطار العلمي الصحيح لتلقي علوم الشريعة، ومن هنا ينبغي إحياء المذهب الحنفي والمالكي والشافعي على وجه التحديد على اعتبار غلبة سمة التطرف على المذهب السلفي الحنبلي، وضرورة أن ينخرط التلاميذ في عملية التقليد المذهبي الصارم ويجب الابتعاد عن تدريس العلوم الشرعية بطريقة الفقه المقارن، لأن ذلك يؤدي بحسب زعم أصحاب هذا الرأي إلى التيه والضياع الفقهي، وإلى ظهور خلطة علمية مذهبية تضيع من خلالها شخصية طالب العلم، ولذلك يتم الطموح إلى رسم صورة نمطية كانت سائدة في القرون السابقة عندما كانت المساجد وحلقات التدريس والتلقي مقسمة إلى حلقات حنفية ومالكية وشافعية وحنبلية وظاهرية وأباضية وجعفرية وزيدية، ولكل مدرسة شيوخها وتلاميذها وكتبها ومتونها وشروحها وجدليتها وفتاواها، وكانت هذه اللوحة تمثل الواقع العلمي في بغداد ودمشق والقاهرة والمدينة المنورة وشمال افريقيا واطراف الجزيرة العربية وسمرقند وبلاد ما وراء النهر.. ويتمنى أصحاب هذا الرأي العودة إلى هذه الصورة الزاهية برايهم، وعودة هذا الحراك العلمي القديم.


في هذا السياق لا بد من الوقوف على بعض الملاحظات المهمة ويمكن اختصارها على ما يلي:
أولاً: هناك بدهية يجب أن تكون محل توافق وهي عدم القدرة على استنساخ التاريخ، وعدم القدرة على إعادة الواقع المعاصر إلى ما قبل قرون لأن ذلك يشكل حلماً بعيد المنال، وليس ذلك بقدرة أحد مهما أوتي من حجة وقدرة في ظل تقسيم العالم الإسلامي إلى ما يزيد عن (56) دولة. ولكل دولة نظامها ومدرستها وطريقتها في تلقي العلم والمعرفة.


ثانياً: ليس من الحكمة العودة إلى منهج التمذهب والتقليد، فهذا فيه مخالفة لمنهج تجديد علوم الشريعة الصحيح الذي يجب أن لا ينكر فضل السابقين والأئمة وأهل الرأي والعلم، ولكن ما قدموه يشكل قاعدة انطلاق نحو المستقبل ولا يشكل أطراً حديدية وقيوداً فولاذية على التفكير والتجديد،مما يقتضي مواصلة تتبع حركة تطور التاريخ وحركة التطور الطبيعية لعملية البحث وتلقي العلم والمعرفة عبر منهجية التفكير العلمي الصحيحة التي تناسب العصر.


ثالثاً: طريقة التلقين المعتمدة سابقا وحفظ المتون والقصائد والاشعارالجامدة التي تلخص الاجتهادات السابقة، واجبار الطلاب على كتب محددة لأشخاص محددين، لا يشكل انطلاقة إلى الأمام ولا يمثل طريقة سليمة في الإصلاح والتطوير، بل يشكل نوعاً من الجمود الصارخ، وتقليد طريقة الكتاتيب القديمة في التلقي الذي يجعل الطالب غير قادر على التجديد ولا الانطلاق ولا الابداع، لأن لسان حال هذه الطريقة (ليس بالامكان أبدع مما كان)، ولو قدر لأئمة المذاهب أن يعودوا لهذا العصر لما اقروا هذه الطريقة التلقينية الجامدة في تخريج طالب العلوم الشرعية الذي سوف يكون منتمياً لحقبة تعود إلى أكثر من ألف عام إلى الوراء.


رابعاً: هذه الطريقة لن تكون قادرة على محاربة التطرف، بل على النقيض تماماً، سوف تؤدي إلى إغلاق العقول وتحجرها، وسوف يشكلون بهذه المنهجية مادة خصبة للتطرف، وخير مثال على ذلك مدرسة (طالبان) في أفغانستان والباكستان التي تتبنى تدريس (المذهب الحنفي) بهذه المنهجية المطروحة تماما، وليس كما يتوهم البعض من اتباع المذهب السلفي الحنبلي، ومع ذلك كانوا شرارة التطرف والعنف في العصر الحديث الذين عرفوا باسم «القاعدة «، مما يجعلنا نقف على حقيقة ان سبب التطرف ليس اسم المذهب وانما منهجية التعليم وطريقة تشكيل العقل.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة