الإثنين 2024-12-16 00:39 ص

‘كانت الحرب هي التي جعلت مني كاتبا’: الطيور الصفراء رواية جندي أمريكي عائد من حرب العراق

07:28 م

الوكيل - منذ فترة ليست بالقصيرة لم تحط الأوساط الأدبية الغربية رواية شاب مقبل على الكتابة بهالة من الإعجاب والثناء مثلما أحاطت به رواية الكاتب الأمريكي كيفن باوورز ‘الطيور الصفراء’. ذلك لأنها رواية تنم عن سرد صادق لجندي سابق في حرب العراق، لا يخصف على أسلوبه في الحديث عن الوقائع من ورق جنة الوعود القومية الأمريكية ولا يعرف هوادة في الغاء كل الخطوط الحمراء وهو يكتب عن نفسه، عن مشاعر الإنسان فيه منطلقا من تجربته الذاتية، كجندي مستخدم لطلقات الرشاش في شمال العراق من فبراير 2004 إلى مارس 2005.

كيفن باوورز ينحدر من أسرة عسكرية فمثل ما فعل جده وأبوه وعمه سجل هو الأخر نفسه في سن السابعة عشر من العمرعن طواعية في الخدمة العسكرية، ‘حتى أصبح رجلا،’ كما كان يعتقد. لكن هذه الرغبة في إثبات رجولته لم تتمخض بعد عودته من الحرب سوى عن شخصية محطمة وبخيبة، لا تسمح له إلا بأن يضحك وبمرارة من شعارات مثل ‘الحرب هي الموحد العظيم’ و’الحرب تضمن بقاء حياة أبدية، ‘حيث’ يسرالجنود عموما، بموت زملائهم، لأنهم بموتهم يقربونهم قليلا من البقاء على قيد الحياة’.
بلغة خطاب صريح ووصف حي يتوجه كيفن باوورز بروايته الأولى إلى الذين ما يزالون يتحدثون عن ‘ميدان الشرف’ ما قد يجعلهم يتحولون عن ‘مثل أمور فن القول الهابط وهذه الشفقة المبتدلة’.
فكيفن باوورز لم يكن أول من قام بوصف تجربته في حرب العراق، بل سبقه مؤلفون أخرون قاموا بنقل معايشاتهم الحربية هناك إلى روايات، لكن لا أحد إرتقى إلى مستوى غضب باوورز الشاعري في الوصف أو إلى أن تكون روايته كما قال ناشر الطيور الصفراء: ‘ أول رواية عن حرب العراق منبعثة من تجربة حقيقية.’ لقد كان معظم سرد مشاهد الرواية ليس من وحي الخيال، لأن الرواية لا تريد أن تكون تقاريرعن تجربة وثائقية، حتى وإن إستعملت أدوات الخيال حيث تتمحور الأحداث من خلال بطليها جون بارتل ودانيل مورفي.
لقد سبق ‘الطيور الصفراء’ صيت ثناء مثل الإعصار، حيث أشاد بها كتاب أميريكون امثال ديف إيغرز، ديفد ميتشل وهلاري مانتيل وأثنى على فن أسلوب سرد الروائي المتراوح بين الشاعرية والقسوة الجارحة عدد من النقاد. فرواية الكاتب الشاب كيفن باوورز، الذي يبلغ الثانية والثلاثين من العمر فازت بجائزة مؤسسة همنغواي، وصنفتها ‘نيويورك تايمز′ في أواخر سنة 2012 في قائمة أفضل عشرة كتب السنة. كما بقيت في جائزة الكتاب الوطني الأمريكي في الدور النهائي.
تبدأ أحداث الرواية في خريف 2004 بمعركة حول مدينة تلعفر. حيث تجمع الصداقة بين الجنديين الامريكيين جون بارتل، الذي عمره واحد وعشرون سنة وينحدر مثل المؤلف من بلدة صغيرة في ريتشموند، ولاية فرجينيا ومنذ سنوات في الجيش والبالغ ثمانية عشر سنة دنيال موري، في ‘حرب قذرة’ لا تحمل معنى واضحا. يعود الأول وهو يقارب الثلاثين بالذاكرة إلى الوراء ليلقي إطلالة على تلك الأحداث، التي جعلته ينشل عقليا. إنه يروي عن دوريات في متاهات الأزقة المظلمة، عن المعارك في أخاديد البيوت و’وديان جرباء من الطوب والإسمنت’، انفجارات تصم الآذان من ضوضاء قذائف الهاون ومتفجرات الأجسام المملوءة بالقنابل وهي مبعثرة في موتها البائس في العراء.
فمن خلال سرد الرواية السافر لمشاهد فاجعة وكثافة الوصف مثل مشهد، الشخصين العجوزين، اللذين لم يعصمهما تثبيت العلم الأبيض على سيارتهما من أن يخترقهما الرصاص. أو جثة الممرضة الشابة الجميلة، التي حولتها قنبلة يدوية إلى أشلاء متناثرة ‘في العلياء يلطخ دمها الحشائش’. أوحقل كامل يملأه القتلى، ‘محطمون، متلاشون، مثنيون، القمصان البيضاء صارت داكنة من الدم’، تذكرنا بمشاهد فلم ‘خزانة الألم’ للمخرجة الأمريكية كاثرين بيغلو، الذي يحكي هو الأخر عن الحياة اليومية للجنود الأمريكيين في العراق والذي أبهر باوورز: ‘في كتابي تسود برودة دقة مماثلة، تتعزز عبر إدراك شبه جنوني تقريبا للروائح، للأصوات، للحيوانات والنباتات في طبيعة تبدو غير مبالية’. يقول باوورز. هكذا حين سمع بطله ذات مرة أصوات نعي النساء العراقيات قتلاهن، قال: ‘كان ذلك الرثاء مدهشا، مثل الريح، التي تأتي فوق بستان الفواكه، فتحمله إلى أن يصل إلينا.’
فعلى لسان أبطاله يكشف الكاتب تدريجيا حقيقة ما حدث في مدينة تلعفر. فذكرياته المجزأة، المفتتة مثل شضايا أو قطع زجاج صغيرة، بينما هو في حرب العراق ‘متداعيا داخليا’ يحملها بارتل وهو يصف عودته إلى الولايات المتحدة وقبلها ليلة غريبة في بيت للدعارة بألمانيا – حيث يتوقف العديد من الجنود المأمورين بالعودة من ميادين الحرب وهم في طريقهم إلى وطنهم الولايات المتحدة الأمريكية. غير أن أحداث الحرب لا تفارقه تلح عليه بالعودة إلى ذكراها دائما من جديد. فمن خلال ذاكرة جندي شاب عاد من الحرب إلى وطنه مصدوما، مهوسا بذكريات فاجعة ومنكسرا في نهاية المطاف، تستعمل الرواية خطابا شديد اللهجة، يفضح آليات الحرب القاتلة، ‘عند عودتي من الحرب، كنت محاطا تقريبا بالمدنيين فقط. جميعهم أرادوا مني، أن أحكي لهم، كيف هي الحياة في الحرب هناك، فالرواية إذن هي محاولتي، كي أنقل إلى هؤلاء الناس الأشياء .. التي أمل ألا يجب عليهم أنفسهم أن يروها.’
من خلال روايته لم يطمح باوورز غير ‘فهم الأبعاد النفسية والعاطفية والأخلاقية للحرب’، كما يقول. فرواية ‘الطيور الصفراء’، هي قصة الهمجية الروحية، التي تفصل دلالات الروابط البشرية وقيم الوحدة الإنسانية ‘إننا ننعي فقط الناس، الذين نعرفهم أما جميع الموتى الأخرين، الذين نراهم، فإننا نعتبرهم، أنا ورفاقي، على أنهم
‘ جزء من منظر طبيعي. مثل زهور سقمت بعد الصقيع، وذبلت في ضوء أشعة شمس باردة’.
‘ كان الخوف والأمفيتامينات يبقوننا مستيقظين، فعندما كانت تتطاير الذخيرة المضيئة حول الأذان، فوق سطح منبسط ونطلق النار في بساتين فواكه المدينة، كانت المعركة ‘موكبا دمويا بطيئا’ وليس مكانا جيدا للعاطفة. ‘في هذا السير الدموي يذكر بارت: أنه يجد فيه حقا مؤاساة، أن يسمع تنفس صديقه مورفي إلى جواره.
فعلى لسان بطله بارتل، يعلن كيفن باوورز عن ندمه في كثير من لحظات حياته على اليوم، الذي التحق فيه بالخدمة في الجيش وهو في السابعة عشرة من العمر. لكنه ومع ذلك يقول في كلمة الشكر، التي لا تنتمي إلى الرواية، أنه محظوظ لأنه نجا من كل ذلك وبقي على قيد الحياة، بل وجد هناك حياة جديدة أيضا. ‘لقد كانت الحرب، هي التي جعلت مني كاتبا.’
أثناء فترة وجوده في العراق يقول باوورز: ‘لم أكتب الكثير، لكنني قرأت الكثير في فترات إستراحات المعارك وفي أسابيع من الهدوء النسبي في معسكر الجيش. منها مثلا ‘الأمريكي الهادئ’، لغراهام غرين، و’مائة عام من العزلة’ لغابرييل غارسيا ماركيز. ‘على الرغم من أنني كنت أحيانا لا أستطيع قراءة غير بضع الصفحات في اليوم فقط، إلا أن القراءة كانت مهمة بالنسبة لي . كان الأدب دائما ملجأ في حياتي.. طوال الوقت كانت الكتابة الشيء الوحيد، الذي دفع بي قدما. لذلك قررت، أن أعطي نفسي الفرصة ككاتب.’
لم تكن كتابة الرواية هي إنطلاقة كيفن باوورز الأدبية، بل سبقتها كتابة الشعر وهو لا يزال مراهقا، كان يرى أنه من المستحيل بالنسبة له، ان يتطلع واحد مثله إلى مهنة كاتب. ‘ربما كان السبب كامنا في شخصيتي فقط، ولكن بجانب ذلك لم تكن الكتابة واردة بالنسبة لي’. يقول باوورز ‘الجيش منحني فرصة الإنغماس، فأنا لم أقاوم وفعلت، ما كان مطلوبا مني’. معلناعلى لسان بطله بارتل. ‘لا أحد كان ينتظر مني الكثير، ولم أكن أطالب إلا بالقليل’.
بعد عودته من العراق تنقل باوورز في عدد من المهن، مساعد في شركة بطاقات القرض، مدرس لفترة وجيزة في إحدى المدارس الثانوية وفي ورشة البناء. ‘كانت عودتنا من الحرب في العراق تختلف عن الجنود الأمريكيين العائدين من حروب أخرى، كان دور الأبطال، المنتصرين المزهوين لم يكن بالنسبة لنا خيارا’. فالحرب العالمية الثانية، التي حارب فيها جده ذات مرة، كانت ذات ‘معنى وهدف’ وأخلاقية واضحة، يقول بطله جون بارتل. خلافا للحرب، التي تم ارساله إليها. هنا الشعور بالقتال ‘وكأنه حادث سيارة’، يقول مورفي. ‘مثل لحظة قصيرة بين إدراك، أنها ستحدث قريبا فرقعة واصطدام. فقط ثواني من حوادث السيارات في الحرب وإذا بها تمتد تقريبا إلى ما لا نهاية ‘ فالسؤال، الذي يفكر فيه البطلان بشكل محموم في البداية هو: ما الذي يتطلبه الأمر، من أجل البقاء في الحرب على قيد الحياة؟ ثم أنهما سرعان ما يدركان، أنه ليست هناك قواعد تشكل جوهر هذه الحرب، غير ‘التمادي فيها ولا نهاية أبدا.’
بعد فصله من الجيش وعودته إلى ولاية فرجينيا، لم يكن شعور بطله بارتل، يختلف عن شعورالعريف ويليام جيمس في فلم خزانة الألم، غير مزيد من الإغتراب الكامل. لم يعد قادرا على العودة إلى الحياة اليومية، بدأ ‘ينهار داخليا’، يتسكع ببندقية من السوبر ماركت عبر الأراضي الصناعية المهجورة، يتوارى عن العالم ويحمل الشعور، بأن ‘ كل واحد يشعر غريزيا بالعار، الذي حملت على عاتقي.’
كان بارتل يدرك أنه حين عاهد أم مورفي عند مغادرته الولايات المتحدة، العودة بإبنها سالما، قد أقدم على إتفاق عواقبه وخيمة. لأن كل ما كان يريده على حد قوله هو راحته. ولأنه كان أحمق، كما علق على ذلك رئيسه، الذي سمع المحادثة بين بارتل وأم مورفي. في وقت لاحق ومبكر من الرواية كان من الواضح، أن جون بارتل لا يمكنه أن يفي بوعده. فكلا الصديقين يعرف تماما ذلك الشعور بالعجز، الذي يفاجئ الواحد أثناء تبادل إطلاق النار: ‘مثل لحظة قصيرة بين إدراك، أنه قريبا سوف يكون الإصطدام . وحتى أكون صادقا، يشعر الإنسان نوعا ما بالعجز′. مورفي، الذي لا يصمد أمام الجنون، تجول ذات يوم عاريا تماما مثل شبح عبر خطوط العدو وانتهى مشوها بوحشية في الغبار عند سفح مئذنة.
إن تعمد باوورز وهو يستحضر بعض المشاهد، المصورة فنيا بشكل جد واضح وعنيف، لا يريد منها إلا أن يسوق أمام عين القارئ هذه الحرب ‘الرديئة’. فبعد عقد بارت في كتيبته الصداقة مع دنيال مورفي، كان عليهما تحمل مدة عشرة أشهر في محافظة نينوى في الحرارة الحارقة حيث كان شعورهما أنهما كانا ‘معا عميانا، كما لو أن السماء بكاملها شمس.’
عشر سنوات مرت على بداية حرب العراق، هكذا، يقول باوورز ‘لكتابي رسالة سياسية، لا يزال بالإمكان إستخلاص النتائج. أنه لا ينبغي لأي إنسان شباب أن يكون أوهاما’.
في خريف عام 2004 تم إحصاء 1000 من القتلى في صفوف الجنود الأمريكيين . في مارس 2013، وصل عددهم في العراق رسميا إلى 4486 قتيلا، ومنذ بداية الحرب، تم نشر 5.1 مليون جندية وجندي أمريكي.
‘اليوم، أجد من السخافة، أن نعتبر وفاة كل جندي بمثابة تأكيد، على أننا سوف نكلل بالبقاء على قيد الحياة. وعلى نفس القدر من السخافة كان إيماننا، بأن كل واحد سقط من أجل هذا تحديدا وفي وقت معين، وأنه لم يأت الدور علينا. لم نكن نعلم، أن القائمة لا نهاية لها، ولم نفكر فيما وراء عدد ألف. لم تكن لدينا فكرة أبدا، أننا ننتمي إلى الأموات الأحياء’.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة