الأحد 2024-12-15 22:48 م

ما فوق الغرائبية

11:33 ص

الوكيل - تطرح روايات سليم بركات في استراتيجيتها الغرائبية أسئلة شائكة ومربكة بصدد شعرية العجائبي، تدفعنا إلى إعادة النظر في مفهوم العجائبي كما صاغه تودوروف في كتابه الرائد ‘مدخل إلى الأدب العجائبي’. في هذا الكتاب يتحدد العجائبي بشرط أساسي هو تردد القارئ في تفسير أحداث فوق طبيعية بالقوانين الطبيعية. وهذا يفترض أن’ تودوروف’ يحدد مفهوم العجائبي في مقابل المحكي الواقعي ، حين يقابل بين الحدث فوق الطبيعي والحدث الطبيعي، بين الخارق والمألوف. وبالتالي ظلت هذه الثنائية بين الطبيعي وفوق الطبيعي، العقل واللاعقل، الخارق والمألوف تحوم حول هذا التعريف وتحد من رؤية أشكال أخرى للكتابة الغرائبية تتحرر من هذه الثنائية، أو على الأقل لا تتقيد بحدودها الفاصلة وزمنيتها الخطية، وتبدع غرائبيتها فيما وراء الحدود والثنائيات.

هل رواية سليم بركات رواية فانتاستيكية أم لا؟
تذهب أطروحة هذه الورقة إلى أن رواية سليم بركات أكثر من مجرد رواية فانتاستيكية. بمعنى أنها لا توظف المحكي الفانطستيكي كبنية تناصية أو مستعارة إلى جانب المحكيات الأخرى الواقعية. ذلك أنها لا تتقيد بالفصل بين فوق الطبيعي و الطبيعي، الخارق والمألوف، ولا تتقيد بقوانين التفسير الطبيعية، أي قوانين العقل في بناء عوالمها الحكائية والدلالية والمعرفية. فالعقل والجنون، اللوغوس والميتوس، الألفة والغرابة، النظام والكاوس، القانون والصدفة، العمى والبصيرة، تتفاعل فيما بينها وتتداخل مشيدة عالما بينيا، هو عالم الظلام ، أي اللاشكل في رواية (فقهاء الظلام)، كمحنة ‘ بحث عن الشكل في السديم العاصف للغريزي’ (ص18).
وفي رواية ‘الأختام والسديم’ يتشخص الما بين في مجاز السديم، المادة اللامتشكلة ، ما يسمى في الفلسفة بعالم الهيولى. وفي رواية (دلشاد أو فراسخ الخلود المهجورة) ينبثق عالم المابين من متاهة النسخ اللانهائية بفعل خيال المترجم اللامحدود،وانزياحات السيمولاكر عن الأصل. وفي رواية (أرواح هندسية) يتجسد المابين في عالم الكثافة اللامرئية للأرواح .
في هذه العوالم الإنتهاكية التي تتورط فيها الشخصيات، ‘كلما أوشك العقل أن يلمس شمس اليقين، انحجبت في ستار محدوديته’.
إن القاعدة في رواية سليم بركات هي الغرائبية، وذلك على خلاف الرواية الفانتاستيكية ، حيث يشكل الخارق استثناء يقتحم مجرى الأحداث الطبيعية، فيخرجها من زمنيتها المألوفة. مع سليم بركات أصبح العالم غرائبيا في كينونته وزمنيته، وانتفى عنه سحر الألفة. وهذا ما يمثل مصدر المصائر العبثية الساخرة لشخوصه وكائناته . ما من يقين يسعف الشخصية في تحمل مصائرها، وما من عقل أو معرفة تسعفها في فهم أقدارها، لذلك يكون مصيرها الانهيار في عالم الظلام، الجنون والحمق، أو النفي بعيدا في أقاصي العزلة الأبدية، حيث تتحول الذات إلى كائن شبحي، أو صيرورة شبح.
هذه الصيرورة الغرائبية ترتبط بإستراتيجية الكتابة عند سليم بركات التي تقوم على فهم لوظيفة الكتابة يتجاوز منطق العقل، يذهب في حفرياته السردية الاستكشافية إلى ما وراء العقل. ويتم تحقيق هذا الرهان الأنطلوجي عبر فعل سردي يشخص الحياة عبر الاشتغال في الجانب الغامض من المصائر، حيث’ الكمال يعمي، حيث رهان الحرية على أتمه في سباق المعنى…حسبي أن أكتب هكذا، دون تفسير، في اتجاه نفسي التي تقامر بها الكتابة ، وأقدارها….حيث الرهان رهان على كمال الوحشة الأقصى للكينونة…إنني في خجل ، أستعير من الراهن فظاظات لغته، لأكد انتمائي إلى خسارة الماضي الذي يوحد الكون كعقل لا يكل عن ترداد أقداره في المرآة، مجرة بعد أخرى، حتى الحدود القصوى المفتوحة على حدود قصوى من يأس المخيلة.) (ص14)
مخيلة تنفتح على تخوم المجهول، ذلك هو خيال السديم الذي يقود مجازات السرد ‘بعيدا عن مسالك العقل، واستيلاد شخوص تقف على العدم والعبث’، ولا تحقق كينونتها أبدا، أو بالأحرى تحقق كينونتها في المصائر الحدية، الجنون، العبث، المتاهة، العزلة الشبحية، في تخطي حدود المعقول والمحتمل، (في الكمين الأقسى للكتابة، حيث المصائر ليست مشهدا، بل دوي في الكثافة اللامرئية للحياة) (ص18)، إذ تفاجأ الشخصيات بالثغرات والفجوات في مصائرها، والمجاهيل والكمائن، (الثغرات التي هي انقطاع التدبير العقلي النسبي، وارتباك البراهين) (ص21) ‘وتصون حتى النهاية أسرارها وتتحدى كل من البسيكلوجيا والمنطق’. إن ما يهم في هذا العالم السديمي الذي يؤسس خرائطيته على أراضي المجاهيل والتخوم القصوى للوجود المعضل، ومحاكاة المجهول بخيال السديم، ليس رهان الكشف سواء بالمعنى الصوفي، أي الكشف عن حقائق محجوبة، ولا بالمعنى الجدلي، أي حل التناقض ، بل على العكس، الإصرار على الحفر في طبقات المجهول في انتقاله من سديم إلى سديم بغواية مطاردة اللامحدود (الرواية ليست كشفا عن شيء..عالم الذات (الأكبر) وعالم الكون (الأصغر) صفات من خطاب النظر التأويلي، والنظر السببي المعلول.لا عالم كبيرا، أو صغيرا،هنا أو هناك. البرهة الواحدة من برهات النفس، في انشغالها بتدبير اللحمة لما هو ممزق من هذا الوجود الممزق، هي كل شيء، من الأزل إلى الأبد. لا أعرف معنى لسياقات الكشوف، من الخيال الصوفي حتى الألسنية النبيلة. لا أبحث عن كشف، بل عن المعضل، المشكل، المتمرد على فظاظات المعنى، اللامتصالح، المتحايل، المارق، المسكون، المختبل ، المنغلق، المستوحد في قطيعته الإلهية مع أي تقديم للمعرفة، من فوق، إلى القارئ. ليبق المعضل معضلا، والمشكل مشكلا. فليتقدم معي القارئ إلى التيه. أريده جسورا) (ص22) .
إن ما يهم هذا الخيال السديمي (هو أن تظل الأشياء ملغزة، لكن ليست اعتباطية، اي بايجاد منطق جديد، منطق بامتلاء، لكنه لا يعيدنا إلى العقل، ويقدر أن يقبض على صميمية الحياة والموت) يقول سليم بركات ( لا أكتب الرواية لأستميل قارئا إلى ‘مقدرة’ إضافية بعد سخاء الشعر المؤلم…مصائر إشكالية تلك هي جسارتي…لا أبدأ رواية بلا إشكال. الحياة إشكال. الأمل إشكال كاليأس. الحضور والغياب إشكالان. أمتحن الواقعة لتمتحن الواقعة دربتي في الوصل إلى مخرج. أحيانا يقع كلانا في المتاهة) (ص20)، ولذلك فإن المعارف العقلية وكل ما بناه العقل من صروح وأنساق تصبح موضع انتهاك وهدم وتجاوز.
رواية ‘فقهاء الظلام’ ، منذ عتباتها التدشينية، ومع انبثاق حكاية المسخ بيكاس، تقذف بالقارئ في عالم الغرائبية، لأننا ندخل عالما غير مألوف، هذا المولود العجيب الذي يولد ويكبر ويتزوج ويشيخ في ليلة واحدة ، وفي الصباح الباكر يغادر زوجته ويختفي، يدخل إلى عالم الظلام، يتحول إلى شبح( أتمزح؟ قل إنك تمزح لن يصدقوا ما سنقول. نحن لم نصدق الأمر بعد. فمن سيهب ابنته من أجل كذبة يا بيكاس، رد الابن’ عليك أن تحاول يا أبي. لم يبق الوقت الكثير.’ فاحتدم الأب: ‘ وقت من ياعجيب؟ من يهتم إذا بقي وقت أو لم يبق؟ ولماذا علي أن أنصت إلى إلحاحك هذا لتجعل إلحاحك أقسى؟ استرنا بحق الله. فأنت تجهز علينا’ لا رد بيكاس.’ الأمر محسوم، وستفعلها يا أبي’. نهض الملا على ركبتيه، متوعدا: ‘ ومن حسم الأمر؟’ فأجابه ابنه ‘ ستفهم ذلك فيما بعد يا أبي’. ‘ لا أريد أن أفهم شيئا فيما بعد، ولا أريده الآن، لست معنيا بهذه المحنة، فليفهمها ربك’ (ص 17)
يختفي بيكاس وتقرر الأسرة ادعاء موته أمام الناس اتقاء للفضيحة. وتؤول الأسرة هذه المحنة (بيكاس) على أنها ابتلاء من الغيب، لا تستطيع تحمله ولا فهمه، لأنه يفوق طاقتها البشرية،( إذا كنت المختار لهذا الامتحان فلست بقادر عليه. للإنسان حدود في الاحتمال، ولا تجاوز حدودي هذه الساحة التي يتصيد فيها أخوك العصافير…يتهيأ لي أنك تعرف كل شيء فدلنا على منفذ) (ص18) وهو ما سيعجل بسيناريو انهيار أفرادها والسقوط في فخاخ الظلام الشيطاني.
يشكل بيكاس عماء قدريا. إنه ‘ المحنة’ و’ القدر’ و ‘الامتحان’ بالمفهوم الميتافيزيقي والأنطلوجي، امتحان كينونة الإنسان على الفهم، واختبار التناهي في مواجهة اللامتناهي، المحدود في مواجهة اللامحدود، محنة فهم سديم الوجود، العقل في مواجهة تناهيه (الأبوان يرقبان فحسب. الأمور تأخذ مجراها خارج أي تدبير) (ص221)
كما تنبأ الأب ستجهز هذه المحنة على عالم الأسرة. وبذلك يمثل بيكاس الحد الفاصل بين عالم النظام والألفة وعالم الفوضى والظلام، حيث يتساقط أفراد الأسرة في فخاخ الجنون والاضطراب والموت والاختلال: يختفي الأب وبيكاس الذي يتحول إلى شبح يسكن الغابات والظلام، ويصاب ‘مجيدو بن عفدي ساري’ و’حشمو’ بالجنون، ويختلي ‘عفدي ساري’ بنفسه في عزلة مطلقة شبحية. تنتهي أغلب الشخصيات بالوقوع في شرك الظلام بوصفه استعارة لثيمات الجنون ومحنة اللامعنى.
في زمنية الظلام تتضاءل الشخصية إلى مجرد شبح وطيف لكينونة متلاشية، تتجاوز الحد الفاصل بين عالم الأحياء والنور والشكل والعقل، وتقع فريسة لعالم الظلام والجنون واللاشكل. إنها أقدار ومهازل كما جاء في النص خارج أي تدبير منطقي. وبيكاس المسؤول عن هذه المحنة ليس (سوى محض لعبة، محض سؤال مرح، محض فضول منبعث من أعماقه وأعماق إخوته.)
يجد القارئ نفسه مورطا في لعبة بيكاس السديمية، لعبة متاهة، لابد أن يحتمي بفضيلة التأويل في مواجهة محنة المعنى والفهم: فهم قوانين عالم مختلف لا يستجيب لقوانين مرجعيته. وبهذا القطع الزمني، ينتقل من زمنية الألفة والنظام إلى زمنية الغرابة والكاوس. وفي هذه المسافة الفاصلة بين التجربة والنص، بين المرجعية والمخيلة، يكون على القارئ خوض تجربة جديدة، هي تجربة المابين التي تميز هذا العالم المختلف:
ـ عالم بيني: يتشكل على تخوم المابين ، يتداخل فيه ماهو طبيعي بما ليس طبيعيا، الواقع بالغيب، الظلام والنور، العقل والجنون، الأشباح والأحياء والأموات، وفق ابستيمولوجية أنطلوجية تضمينية، عوالم داخل عوالم.
ـ عالم هويات بينية هجينة: تنتج عن هذا العالم المابيني بالضرورة هويات بينية هجينة غرائبية، إنساني/ نباتي/ حيواني، بدون حدود فاصلة أو خاصيات جوهرية محايثة. بدل الهوية يقترح هذا العالم مفهوم الصيرورة، حيث يمكن لهوية الإنسان أن تكون صيرورة حيوان، أو صيرورة نبات، أو صيرورة طير . وبالعكس يمكن لهوية الجماد أو الحيوان أن تكون صيرورة إنسان .في البداية تتشكل هوية بيكاس كصيرورة حيوان في ظلام الرحم. وبميلاده وخروجه إلى عالم النور والشكل، ينمو في صيرورة مسخ. ينمو بمقدار سنة كل ساعة، وينتهي إلى صيرورة شبح، أي ظلام. صيرورة ارتحال من الظلام (الرحم) إلى الظلام (شبح غير مرئي). وبالتالي فإن ما يحكم هوية بيكاس هو الطفرة، وليس العضوية، اي الانتقال من حالة إلى أخرى، في أفق صيرورة مفتوحة على التحولات، وليس التطور وفق النموذج العضوي.
ـ عالم كاوسي: محكوم بقانون الطفرة الذي يطيح بالقوانين الطبيعية، حيث تخضع الكائنات للتحولات اللاخطية، وتمحي الحدود بين العوالم: تداخل العقلاني واللاعقلاني، الجنون والعقل، الموت والحياة، الغياب والحضور، الوجود والعدم. عوالم داخل عوالم.
ـ عالم هولامي: يتجاوز منطق الخطية الذي يفصل بين الماضي والحاضر، لأنه في صيرورة تحولاته الكارثية وطفراته الانتقالية لا يتقيد بانتظام التطور، ولا يذعن لحدود الأزمنة، بل يتحرك ويتنقل بين الماضي والحاضر، بين الذاكرة والتاريخ والحلم والأسطورة، حيث المخيلة تحلق فوق الحدود وتعيد بناء جغرافيات جديدة في المجازات القصوى للخيال السديمي.
ما ذا نستخلص من هذا التشكيل الغرائبي للنص؟:
ـ على مستوى التكون، نلاحظ أن الفعل السردي المولد للحكاية ومساراتها وتشعباتها الأفقية والعمودية هو فعل غرائبي، لأنه ينطلق من موتيف معقد ومركب يرسخ غرائبية الحكي والخطاب، يمزج بين العقلي واللاعقلي، بين الحياة والموت، بين الحلمي والوهمي والواقعي ، بين قانون الطفرة والصدفة و الألفة والنظام. وتتفاعل هذه العناصر المتناقضة تفاعلا ديناميا إلى المدى الجذري الذي تمحي فيه الحدود، وتتداخل الهويات و تشتبك العناصر والصفات، بحيث تتولد جغرافية نصية جديدة، عوالم داخل عوالم، بديلة ومنتهكة لعالم الخطية الذي يقوم على انفصال العوالم .
ـ إن الغرائبي في هذا المتن هو القاعدة والنواة التأسيسية، وليس الاستثناء كما في النصوص التقليدية. وإذا ما كانت هذه النواة الغرائبية هي الأصل، وليست عنصرا دخيلا أو مستعارا من أنساق أخرى سابقة على وجود النص، فإن هذا الانتظام الذاتي للغرائبية لا يمنع تطعيم النص بخطابات عجائبية مستعارة من أنساق متنوعة، دينية وعجائبية وتاريخية وأسطورية.
ـ لا يتولد العجائبي في هذا النص من أحداث وكائنات فوق طبيعية، بل يتشيد من ‘الإنسان العادي’، وينطلق أحيانا من اليومي العجيب، من تغريب اليومي.


gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة