الإثنين 2024-12-16 00:49 ص

محاذير في تربية الأولاد

10:58 ص
تربّينا على الاعتناء برأي الناس فينا وفي تصرفاتنا، دون اهتمام برأينا الشخصي في أنفسنا وتصرفاتنا، ممّا أورثنا العيش في تناقض ونفاق لا مثيل له. فنحن نحسب (للعَيْب) ألف حساب، بغضّ النّظر عن منطقيته أو صحته أو مستنده. فمثلا: إذا توفي والد الشخص فلا يقدر ورثته إلا على إقامة بيت للعزاء تقدم فيه القهوة والتمر، بالإضافة إلى الغداء الذي سيكلفهم مبالغ طائلة، وإن لم يفعلوا ذلك وقعوا تحت سيف العيب وكلام الناس، فيضطرّ البعض للاستدانة ليسترَ نفسه، ويقيَها مِن ألسنة الناس. فيفعل الإنسان ما لا يحبّ أو يعتقد، ويعيش حالةً من الفصام.

أضف إلى ما سبق أنّنا نعلّم أولادنا السلوكَ المزدوج، ففي المتنزّه –مثلا- لا يمانع الأبوان أن يلقيَ الأولاد القاذورات في الشارع أو يتركوا المخلفات على الأرض طالما أنّ أحدا لا يراهم من الناس، فنعزّز عند أولادنا السلوك المزدوج، ما نفعله أمام الناس، يختلف عمّا نستطيع فعله بعيدًا عن أعينهم، بغض النظر عن كونه صوابا أو خطأً.
وهكذا يعيش أحدنا حقيقته بينه وبين نفسه، ويعيش ممثّلا أمام الناس، وكلما كان أبرع في التمثيل ازدادت مكانته عندهم واحترامهم له، على الرغم أنه قد لا يحترم شيئا ممّا يُظهره أمامهم. ومثال ذلك قد يقوم فريق من الناس بإظهار أنفسهم بمظهر الملتزم دينيا، فيطيل لحيته، ويقصّر ثوبه، ويلتزم بالصلوات الخمس في المسجد، وهكذا يحكم عليه الناس- وغالب شعوبنا العربية متدينة أصلا- بأنه من أهل التقوى والورع ومخافة الله، ونور الإيمان يشع من جبينه، وزبيبة الصلاة (المزيّفة) شاهدة على ذلك. مع أن نفس هذا الشخص يعمل السبعة وذمّتها، ولا يميز حلالا من حرام، وما أكثر هذه التمثيليات التي تدور من حولنا، ولا شك أن أحدنا قد شاهد واحدة منها!
ويحصل مثل هذا الأمر مع المثقفين أيضا، حيث يُظهر كل واحد منهم احترامَه للآخر وفكره، ومؤلفاته، وإنتاجه الثقافي أو الأدبي، من باب التمثيل فقط، كي يَردّ عليه هذا الشخص الممدوح بتحية خير منها أو مثلها، فيفعل مثلما فعل أو أكثر. وهكذا وقعنا في أوحال النفاق الاجتماعي. 
ولا يلبث هذا المادح إذا خلا مع زمرته بعيدًا عن صاحبه الممدوح أن يبيّن عيوبه ومساويه بحق أو بغير حق، فانقلب المجتمع من التمثيل إلى النفاق ثم إلى الغيبة. وهذا يفسّر لنا الكمّ الهائل من الغيبة في مجالسنا؛ لأننا نعيش أمام الآخرين حالة النفاق المتبادل، من باب الدماثة والمجاملة، ثم ننتقل بعيدًا عنهم إلى حالة الغيبة المتبادلة. وكلّ واحد منا يستطيع أن يلاحظ ذلك في نفسه ومن هم حوله.
 وتنتقل هذه الأخلاق القبيحة منا إلى أبنائنا وبناتنا من بعدنا، فتصير الأخلاق المذمومة آفة للآجيال، وليست آفة جيل واحد. ولا بدّ أن يطّلع أحدنا على مقالة فلان عنه التي قالها بعيدًا عن مسامعه، فالغيبة ستصل في يوم من الأيام لمن اغتبته، وعندها سيعلم أن الإنسان الذي كان يجامله كذاب أشِر، وممثل بارع، ومنافق كبير، فليس محلا للثقة أبدا، وسيبدأ الشكّ وسوء الظن ينتشران بين الناس، ويشكلان القاعدة التي تُبنى علها العلاقات بينهم ، وهنا سنجد ما قاله مارك توين الكاتب الأمريكي الساخر حقيقة (سوء الظن مرض يقتل كل شيء جميل).
 ينبغي أن نربيَ أولادنا على قول الحق بأدب، ونتعلمَ قبول قول الحق. وألا نعتبر النقد أمرًا شخصيًّا يهدف إلى الحط من قدرنا بل نعتبره أمرًا عمليًّا  ونصيحة من أجل التحسين والتطوير.
gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة