كان ثلج الشوبك
الكثيف مفاجئا وصاعقا بالنسبة لي، أنا الذي ولدت على سيف بادية الشام في الإجفور
على الحدود العراقية الأردنية، وعشت معظم سنيّ عمري في المفرق ومعان الصحراويتين.اضافة اعلان
لم تكن لي خبرة التعامل مع الثلج. فأنا ابن الغبار والسراب والهجير واللظى والمدى البني الصحراوي.
تواصل الهطلُ متقطعا لمدة شهرين تقريبا، في قرية بير أبو العلق بالشوبك. فأصبحت في عزلة عن العالم ومعي العجوز العمشاء والطلاب الأطفال العشرة، الذين كانوا يقضون معظم نهارهم في غرفتي، يدرسون وينجزون الواجبات المدرسية ويشربون الحليب الساخن المضاعف التحلية عندما يريدون ويتناولون المربّى «التطلي» عندما يريدون.
وكانت صوبة البواري تجعل وجوههم حمراء كحبات الشمندر.
كانت غرفتي مليئة بالمواد التموينية التي تبرعت بها هيئات اغاثة دولية لمدارس القرى الأردنية النائية.
حاولت أن أطهو لطلابي الأرز والفاصوليا البيضاء والبازيلاء والحمص والعدس الحَب، وضعتها كلها في الطنجرة الكبيرة وسكبت عليها ماء ورششت عليها الملح وذريرات الفلفل الأسود وتركتها نحو ساعة على نار البريموس.
صُدِمنا أنا وطلابي عندما سكبنا مزيج الحبوب المطبوخة في صينية كبيرة وأخذنا نتغدى.
لم ينضج من المزيج إلا الأرز ! فقد ظلت باقي أصناف الحبوب على قساوتها وصلابتها.
ولاحقا عندما أخبرت والدتي بما جرى، قالت لي مبتسمة: كان يجب أن تنقع الحبوب بالماء عدة ساعات قبل طبخها.
المهم أنني عوّضت ذلك بأن فتحت عدة علب سردين وتونا وقليت عددا من البيضات البلديات بالسمن البلدي غمسناها بخبز القمح البلدي.
هاهنا في هذا الجنوب المؤابي الآدومي الأنباطي تتكثف الوحدة والعزلة والصقيع والعيش البدائي والشح والندرة.
لكنها كانت اشهى وجبة واكثر صحبة نقاوة وبراءة.
مر شتاء عام 1966 قاسيا عليّ، فقد كنت في غربتي الأولى بعيدا عن أهلي في المفرق مئات الكيلومترات. وبعيدا عن الطريق العام الذي يخترق قرية بير الدباغات، القرية المجاورة التي تقع على بعد خمسة كيلومترات.
أخذت أخطط لمغادرة «القماط» الحديدي الذي أنا فيه. قمت بجولات مكوكية على المعلمين في القرى المجاورة. اغتنمت صحو السماء وترافقت مع قروي عابر سبيل وذهبت ظهر يوم خميس إلى بئر الدباغات. هناك التقيت بالمعلم محمد الملكاوي الذي كان منفردا هو الآخر.
استضافني الملكاوي وأمضينا الليل في الثرثرة التي كان كلانا محروما منها. وفي الصباح توجهنا الى الدكان القريبة التي تقع على الطريق الواصل بين الشوبك ووادي موسى.
كان في الدكان شعبة بريد وهاتف عمومي، فقررت الاتصال منه مع الأهل، لأكتشف انه لا يوجد هاتف في كل حارة المعانية التي نسكن فيها في بلدة المفرق.
تقع قرية بير الدباغات وسط غابة كثيفة الاشجار يسميها القرويون «الهيشي».
اتفقت مع المعلم الملكاوي ان أسكن معه في بير الدباغات، التي فيها رفاهية كبيرة: دكان وهاتف وطريق نافذ !
نقلت «يطقي» المكون من فرشة ولحاف وطنجرة ومقلى وصحنين والكثير من الكتب، على بغل أحد القرويين.
سكنت في الدباغات ثلاثة شهور، إلى أن جاءت العطلة الصيفية. كنت تحت رقابة مشددة من الله و من ضميري. امشي كل يوم نحو 10 كيلومترات بين «البيرين» بير الدباغات وبير ابو العلق ذهابا وايابا، دون كلل أو تذمر، لأكون في الوقت المناسب مع طلابي في المدرسة.
مارست أجمل وأكمل وأمتع رياضة يمكن أن تتاح لإنسان. ترتب على ذلك الماراثون اليومي أن تركت التدخين !
فقد كنت أتنفس رحيقا وربيعا وطبيعة تأسر الألباب، كنت أمر في طريقي على أفعى متكورة، لم يتحرك دمها البارد بعد، اتحسس مسدسي لكنني لا أدوسها ولا اقتلها.
وكنت المح «أبو الحصيني» فأوشك أن ادعوه إلى الغداء. مستذكرا ذئب الفرزدق حين خاطبه قائلا:
تعـشّ فإن عاهدتني لا تخـونني،
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان.
وحصل أن صادفت قرويا، يمشي وحيدا بتثاقل شديد ويده تمسك خاصرته. فلما سألته عمّا به، شكا لي مرّ الشكوى من منطقة الكلى.
وصفت له ماء الشعير المغلي الذي طلبت منه أن يشربه على الريق وقبل النوم يوميا.
زارني الرجل بعد نحو شهر وهو يصيح: الله يبيض وجهك يا الطفيلي، ما ظل بيّ وجع، طبت طبت، الله يجزاك الخير.
ولم تكن يده فارغة.
كان «يقط طليا سمينا» (بالعربي يسوق خروفا سمينا)! اولمته لرهط المعلمين الذين التهموه كأنهم لم يأكلوا لحما منذ قرن !
لقد كان المعلم طبيبا أيضا.
أصبحنا اسرة منسجمة، نتزاور ونلتقي عندي في البير أو عند الملكاوي في الدباغات أو عند مأمور العيادة عدنان خليل آل خطاب في بير خداد أو عند محمد موسى النعانعة في الشمّاخ أو عند أمين الصغيّر في حوالة.
والغريب أن المرأة بكل جمالها وجلالها، لم تتخلل أحاديثنا، رغم أننا كنا مجتمع عزابية خشنا وعرا جافا.
كانت المرأة بالنسبة لنا، مخلوقة فضائية، موجودة فقط في القصائد والروايات. يهبط القلب لرؤيتها في الدورات التربوية. أو في اللقاء الشهري في البنك لاستلام الراتب. أو في سرفيس معان- عمان آخر كل شهر.
لقد تمكنتُ من كسر حاجز العزلة وحصار الثلوج ولعنة «المعلم المنفرد».
وبالقدر الذي كنت فيه سعيدا لخروجي من ذلك القفص الفولاذي، كان الحزن طافحا وغير مسيطَر عليه، على وجوه طلابي.
لقد خذلتهم حين غادرت حوزتهم.
كل ذلك العناء والضناء والشقاء، براتب شهري مقداره 20 دينارا و18 قرشا.
*****
المعلمون بلا منازع، هم روح الأردن، توغلوا في بقاع الوطن واقتحموا أكثر الحواجز شدة وبأسا، ما تركوا بقعة لم يكافحوا من اجل إنارتها وبث البصيرة والإشعاع والحروف فيها.
وإذا كان هذا العناء هو ما واجهه المعلمون آنذاك، فماذا أُحدّث عن المعلمات اللواتي اجترحن المآثر وعشن حياة لا تدانى في شظفها وقسوتها.
لم تكن لي خبرة التعامل مع الثلج. فأنا ابن الغبار والسراب والهجير واللظى والمدى البني الصحراوي.
تواصل الهطلُ متقطعا لمدة شهرين تقريبا، في قرية بير أبو العلق بالشوبك. فأصبحت في عزلة عن العالم ومعي العجوز العمشاء والطلاب الأطفال العشرة، الذين كانوا يقضون معظم نهارهم في غرفتي، يدرسون وينجزون الواجبات المدرسية ويشربون الحليب الساخن المضاعف التحلية عندما يريدون ويتناولون المربّى «التطلي» عندما يريدون.
وكانت صوبة البواري تجعل وجوههم حمراء كحبات الشمندر.
كانت غرفتي مليئة بالمواد التموينية التي تبرعت بها هيئات اغاثة دولية لمدارس القرى الأردنية النائية.
حاولت أن أطهو لطلابي الأرز والفاصوليا البيضاء والبازيلاء والحمص والعدس الحَب، وضعتها كلها في الطنجرة الكبيرة وسكبت عليها ماء ورششت عليها الملح وذريرات الفلفل الأسود وتركتها نحو ساعة على نار البريموس.
صُدِمنا أنا وطلابي عندما سكبنا مزيج الحبوب المطبوخة في صينية كبيرة وأخذنا نتغدى.
لم ينضج من المزيج إلا الأرز ! فقد ظلت باقي أصناف الحبوب على قساوتها وصلابتها.
ولاحقا عندما أخبرت والدتي بما جرى، قالت لي مبتسمة: كان يجب أن تنقع الحبوب بالماء عدة ساعات قبل طبخها.
المهم أنني عوّضت ذلك بأن فتحت عدة علب سردين وتونا وقليت عددا من البيضات البلديات بالسمن البلدي غمسناها بخبز القمح البلدي.
هاهنا في هذا الجنوب المؤابي الآدومي الأنباطي تتكثف الوحدة والعزلة والصقيع والعيش البدائي والشح والندرة.
لكنها كانت اشهى وجبة واكثر صحبة نقاوة وبراءة.
مر شتاء عام 1966 قاسيا عليّ، فقد كنت في غربتي الأولى بعيدا عن أهلي في المفرق مئات الكيلومترات. وبعيدا عن الطريق العام الذي يخترق قرية بير الدباغات، القرية المجاورة التي تقع على بعد خمسة كيلومترات.
أخذت أخطط لمغادرة «القماط» الحديدي الذي أنا فيه. قمت بجولات مكوكية على المعلمين في القرى المجاورة. اغتنمت صحو السماء وترافقت مع قروي عابر سبيل وذهبت ظهر يوم خميس إلى بئر الدباغات. هناك التقيت بالمعلم محمد الملكاوي الذي كان منفردا هو الآخر.
استضافني الملكاوي وأمضينا الليل في الثرثرة التي كان كلانا محروما منها. وفي الصباح توجهنا الى الدكان القريبة التي تقع على الطريق الواصل بين الشوبك ووادي موسى.
كان في الدكان شعبة بريد وهاتف عمومي، فقررت الاتصال منه مع الأهل، لأكتشف انه لا يوجد هاتف في كل حارة المعانية التي نسكن فيها في بلدة المفرق.
تقع قرية بير الدباغات وسط غابة كثيفة الاشجار يسميها القرويون «الهيشي».
اتفقت مع المعلم الملكاوي ان أسكن معه في بير الدباغات، التي فيها رفاهية كبيرة: دكان وهاتف وطريق نافذ !
نقلت «يطقي» المكون من فرشة ولحاف وطنجرة ومقلى وصحنين والكثير من الكتب، على بغل أحد القرويين.
سكنت في الدباغات ثلاثة شهور، إلى أن جاءت العطلة الصيفية. كنت تحت رقابة مشددة من الله و من ضميري. امشي كل يوم نحو 10 كيلومترات بين «البيرين» بير الدباغات وبير ابو العلق ذهابا وايابا، دون كلل أو تذمر، لأكون في الوقت المناسب مع طلابي في المدرسة.
مارست أجمل وأكمل وأمتع رياضة يمكن أن تتاح لإنسان. ترتب على ذلك الماراثون اليومي أن تركت التدخين !
فقد كنت أتنفس رحيقا وربيعا وطبيعة تأسر الألباب، كنت أمر في طريقي على أفعى متكورة، لم يتحرك دمها البارد بعد، اتحسس مسدسي لكنني لا أدوسها ولا اقتلها.
وكنت المح «أبو الحصيني» فأوشك أن ادعوه إلى الغداء. مستذكرا ذئب الفرزدق حين خاطبه قائلا:
تعـشّ فإن عاهدتني لا تخـونني،
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان.
وحصل أن صادفت قرويا، يمشي وحيدا بتثاقل شديد ويده تمسك خاصرته. فلما سألته عمّا به، شكا لي مرّ الشكوى من منطقة الكلى.
وصفت له ماء الشعير المغلي الذي طلبت منه أن يشربه على الريق وقبل النوم يوميا.
زارني الرجل بعد نحو شهر وهو يصيح: الله يبيض وجهك يا الطفيلي، ما ظل بيّ وجع، طبت طبت، الله يجزاك الخير.
ولم تكن يده فارغة.
كان «يقط طليا سمينا» (بالعربي يسوق خروفا سمينا)! اولمته لرهط المعلمين الذين التهموه كأنهم لم يأكلوا لحما منذ قرن !
لقد كان المعلم طبيبا أيضا.
أصبحنا اسرة منسجمة، نتزاور ونلتقي عندي في البير أو عند الملكاوي في الدباغات أو عند مأمور العيادة عدنان خليل آل خطاب في بير خداد أو عند محمد موسى النعانعة في الشمّاخ أو عند أمين الصغيّر في حوالة.
والغريب أن المرأة بكل جمالها وجلالها، لم تتخلل أحاديثنا، رغم أننا كنا مجتمع عزابية خشنا وعرا جافا.
كانت المرأة بالنسبة لنا، مخلوقة فضائية، موجودة فقط في القصائد والروايات. يهبط القلب لرؤيتها في الدورات التربوية. أو في اللقاء الشهري في البنك لاستلام الراتب. أو في سرفيس معان- عمان آخر كل شهر.
لقد تمكنتُ من كسر حاجز العزلة وحصار الثلوج ولعنة «المعلم المنفرد».
وبالقدر الذي كنت فيه سعيدا لخروجي من ذلك القفص الفولاذي، كان الحزن طافحا وغير مسيطَر عليه، على وجوه طلابي.
لقد خذلتهم حين غادرت حوزتهم.
كل ذلك العناء والضناء والشقاء، براتب شهري مقداره 20 دينارا و18 قرشا.
*****
المعلمون بلا منازع، هم روح الأردن، توغلوا في بقاع الوطن واقتحموا أكثر الحواجز شدة وبأسا، ما تركوا بقعة لم يكافحوا من اجل إنارتها وبث البصيرة والإشعاع والحروف فيها.
وإذا كان هذا العناء هو ما واجهه المعلمون آنذاك، فماذا أُحدّث عن المعلمات اللواتي اجترحن المآثر وعشن حياة لا تدانى في شظفها وقسوتها.
-
أخبار متعلقة
-
لا يمكن هزيمة الكاتب (2-2) عبدالجبار أبو غربية نموذجاً ومُلهِماً !!
-
النمو الاقتصادي السعودي وفي الخليج العربي
-
اتهامات للأميريكيين في عمان
-
نحنحة
-
أسرى لكن برغبتهم ..!!.
-
لا يمكن هزيمة الكاتب (1 - 2) هشام عودة نموذجاً وملهِماً !!
-
إلى متى ستحتمل الضفة الغربية؟
-
اليوم عيدُ ميلادي