في أواخر تموز من هذا العام، اختتمت ورشة عمل المرحلة الثانية من رؤية التحديث الاقتصادي التي عُقدت في الديوان الملكي واستمرت على مدى اثني عشر يومًا بمشاركة أكثر من أربعمئة شخصية من خبراء وممثلين عن القطاعين العام والخاص. وقد جاءت هذه الورشة في توقيت حساس، ليس فقط لأنها ناقشت ما تحقق، بل لأنها أعادت طرح السؤال الجوهري: لماذا لا يتحقق الإنجاز كما يجب رغم أن الأهداف واضحة، والموارد متاحة، والمساءلة قائمة؟ المشاركون ناقشوا البرامج وأولويات المرحلة الثانية التي ستمتد من 2026 إلى 2029، لكن الأرقام التي قُدمت في الورشة عن واقع المرحلة الأولى كانت كفيلة بأن تحوّل الجلسات من حالة استعراض إلى لحظة مواجهة حقيقية مع المعوقات الإدارية والتشريعية والتنفيذية التي ما تزال تفتك بروح الإصلاح.
من أبرز النقاط التي تكررت في الورشة، كما في النقاش العام، مسألة الموقع الجغرافي للأردن. فبين من يراه نقطة قوة استراتيجية بحكم وقوع الأردن في قلب الإقليم وعلى خطوط الربط الإقليمي والدولي، وبين من يعتبره أصبح عبئًا في ظل التطورات الجيوسياسية منذ حرب غزة في أكتوبر 2023 وما تبعها من تصعيد في البحر الأحمر وجنوب لبنان وسوريا واليمن، ثم الدخول الإيراني الإسرائيلي المباشر في ربيع 2025، تبرز حقيقة مركبة: إن الجغرافيا لا تمنح الأفضلية تلقائيًا، بل تتحول إلى ميزة أو تحدٍّ بحسب ما إذا كان القرار السياسي والإداري قادرًا على استثمارها، أو أنه يكتفي باستخدامها كمبرر للجمود أو شماعة للفشل.
لكن ما هو أعمق من الجغرافيا، هو ذلك الخلل البنيوي الكامن داخل الإدارة العامة، والذي تجلّى بوضوح في بطء التنفيذ وتردده. فهناك مراكز قوى في الدولة الإدارية تقاوم التغيير بصمت، بعضها يسعى إلى تثبيت الأمر الواقع حفاظًا على شبكة النفوذ، وبعضها يخشى من توسعة قاعدة المكتسبين على حساب مصالح فئات ضيقة، وبعضها الآخر يتمترس خلف قوانين وتعليمات ونماذج وإجراءات لا تؤدي سوى إلى تأجيل القرارات وشلّ حركة الإنجاز. هذا التعطيل لا يُمارس علنًا، بل بوسائل إدارية مشروعة ظاهرًا لكنها فارغة مضمونًا، وبذريعة التنظيم تُفرغ الرؤية من محتواها وتحوّلها إلى روتين بيروقراطي لا أكثر.
وفي المقابل، لا يمكن إعفاء بعض الوزراء من المسؤولية، خاصة أولئك الذين غابوا عن المشهد التنفيذي وسلّموا مفاتيح القرار لموظفين أقل رتبة بدعوى تفويض الصلاحيات. هذا التفويض، بدلًا من أن يكون أداة تمكين، تحوّل في كثير من الحالات إلى أسلوب للتهرب من المتابعة، وذريعة لعدم التدخل، وغطاء للبرود الإداري. أما على المستوى الأوسع، فإن أحد التحديات الكبرى التي كشفتها المرحلة الأولى من تنفيذ الرؤية هو غياب الانسجام الكامل بين الطبقة السياسية والتنفيذية والإدارية، وغياب الإيمان العميق داخل كثير من حلقات الدولة بهذه الرؤية كخيار لا عودة عنه.
وفي قلب هذا المشهد، لا يمكن تجاهل غياب الشراكة الحقيقية مع القطاع الخاص. فالرؤية بُنيت على مبدأ أن النمو الاقتصادي لا تقوده الحكومة، بل يقوده القطاع الخاص، لكن هذا القطاع لا يزال حتى اليوم بعيدًا عن دوائر القرار الأساسية في كثير من الوزارات والمؤسسات. يتم إشراكه شكليًا في بعض اللجان، أو يُدعى لحضور اللقاءات دون أن يكون له دور حقيقي في صياغة السياسات، والنتيجة أن القطاع الخاص بقي مترددًا، ضعيف التأثير، منقسمًا بين من يراهن على مصالحه الآنية، ومن لا يثق بأن الدولة جادة في تمكينه فعليًا.
في ظل كل ذلك، يبرز دور مجلس النواب بوصفه الجهة الرقابية التي لا يجب أن تكون فقط متفرجة على سير الأمور. الرؤية الاقتصادية مشروع وطني لا يخص الحكومة وحدها، بل يشمل الدولة كلها، ومجلس النواب معني أولًا وأخيرًا بمراقبة نسب الإنجاز، وفحص جودة التنفيذ، وفتح ملفات التعطيل، واستدعاء كل من يثبت تقصيره، لا في المساءلة فقط بل في المتابعة الدقيقة المستمرة. ليس مقبولًا أن تمر أشهر دون أن يُقدّم للنواب تقرير رسمي تفصيلي عن سير الرؤية، وليس مقبولًا أن تكون بعض المشاريع معطّلة منذ شهور دون معرفة أسباب العرقلة أو مَن المسؤول عنها. الرؤية تتطلب مساءلة دورية صارمة، ورقابة تشريعية نشطة، وموقفًا واضحًا من كل نائب تجاه البرامج التي تمس مجتمعه واقتصاد دائرته ومستقبل الدولة.
إذا لم تتحول الرؤية إلى التزام فعلي داخل كل وزارة ومؤسسة وبلدية ومجلس تشريعي، وإذا لم تُربط الترقيات والمكافآت والمناصب بالأداء ضمن هذه الخطة، فسنبقى في حالة تكرار موسمي: نُخطط بامتياز، وننفذ دون أثر. اللحظة الحالية هي لحظة الاختبار الحقيقي: هل نحن جادون في التحديث؟ أم أن الورش تُختتم، والبيانات تُعلن، والوقت يُستهلك... دون أن يتغير شيء؟
-
أخبار متعلقة
-
الخصاونة يرعى احتفال ذكرى الجلوس الملكي وسنوية تأسيس مبادرة "إنسانيون" في إربد
-
الفايز: نرفض أي مشاريع لتسوية القضية الفلسطينية على حساب الأردن
-
"إرادة النيابية": المجاعة في غزة جريمة حرب مكتملة الأركان
-
صورة واحدة... مقال يلخّص الأردن بقلم الكابتن زهير محمد الخشمان
-
صورة تختصر الأردن… بين حكمة الأمير الحسن وطموح ولي العهد الحسين
-
"طاقة الأعيان" تزور شركة الكهرباء الوطنية
-
"الميثاق النيابية" تتابع قرارات الحكومة ومشاريعها التنموية في المفرق
-
"العمل النيابية" تزور دائرة الأحوال المدنية