من المثير حقا أن سلطة أوسلو التي ورثت المشروع التحرري الفلسطيني، تتشارك مع كل الأنظمة السياسية العربية في تعبيراتها السياسية، عن القضية الفلسطينية، وكأنها مجرد طرف صديق.
اذهبوا إلى كل بيانات سلطة أوسلو، وإلى كل مؤتمرات رئيسها ورئيس حكومتها، وإلى كل المسؤولين فيها، وكأنهم تعلموا القراءة على شيخ واحد، أي ذات الطريقة العربية في التعبير عن المواقف والأزمات والمخاطر، وكأنهم كما أشرت مجرد طرف صديق أو طرف حيادي، أو أحد الجيران في آسيا، أو أفريقيا، هذا على الرغم من أنهم ورثوا مشروعا تحرريا، وفشلوا في المشروع، ولم يحققوا أهدافه، ولا تحولوا إلى دولة مكتملة أو مقطعة الأوصال، أو صغيرة أو وسطى أو كبيرة.
هذه ليست جرأة على طرف يواجه ظرفا معقدا، لكن من المثير مجددا، أنهم كلما وقعت أزمة في المسجد الأقصى، أو قرر الإسرائيليون بناء مستوطنة، أو فتح شارع، أو اعتقلوا فلسطينيين، أو استباحوا مدينة أو قرية أو مخيما، أن يخرج هؤلاء ويتحدثوا بذات اللغة الرسمية العربية، هذا على الرغم من أنهم ليسوا نظاما رسميا عربيا مكتملا، ولا نظاما تأسس على دولة بلا أزمات معقدة.
أليس من المفترض أن تكون أدوات سلطة أوسلو مختلفة، كونها في الأساس نشأت ضمن تسوية لإقامة دولة فلسطينية، مقابل الاعتراف بإسرائيل، وقدمت السلطة ذاتها للفلسطينيين باعتبارها وريثة حركات تحرر، لكنها لم تعتمد هذه الأدوات المفترضة، بل تورطت بذات الصياغات العربية، من جهة، وبالدور الأمني الوظيفي المطلوب للإسرائيليين، وهي هنا تساوت مع أسوأ الأنظمة العربية، أيضا، من حيث محوها لحقيقة وجود احتلال يسرق اليوم بقية مناطق الضفة الغربية ويقوم بتقطيع ما تبقى من أرض للدولة العتيدة المفترض إقامتها داخل فلسطين التاريخية.
أسوأ تيار تسلل إلى الفلسطينيين هو التيار الذي يصف نفسه بالبراغماتي، الذي يفيض على رأسك وهو يشرح لك العوامل الدولية والإقليمية المعقدة، التي تجبر الرسميين الفلسطينيين على التورط في هكذا صياغات وأدوار، فوق ما يقولونه من أن نقض هذه الأدوار السياسية سيؤدي إلى انقضاض الإسرائيليين على سلطة أوسلو وإنهاء كل المشروع الفلسطيني أو ما تبقى منه، وإنه بسبب هذه الاستخلاصات يتم الاستمرار في إدارة الأمور بهذه الطريقة، التي تحولت مع مرور الوقت إلى شبه تطابق مع الطريقة الرسمية العربية، لكن مع فرق حاد، أي أن تلك أنظمة قائمة في دول وشعوب غير محتلة، فيما السلطة تحكم شعبا تحت الاحتلال، ولا دولة له، ويتم التنكيل فيه.
والتيار البراغماتي بدأ براغماتيا، لكنه مع مرور الوقت استطيب اللعبة، وأحبها، وتم اختراقه بوسائل مختلفة، وتحولت البراغماتية هنا، إلى داء مزمن، لا يمكن الخلاص من آثاره الجانبية. هذا يعني أن هكذا تعبيرات عن المواقف السياسية وهكذا صياغات قد تكون معتادة من النظام الرسمي العربي، لكن تبنيها بكل شغف من جانب سلطة أوسلو محاولة للنسخ غير الوطني، وتورط في مقاربات غير عميقة، تتجاوز أصل القصة، أي أن السلطة لم تأت سلطة في بلد مستقر أساسا وخارج الاحتلالات، بل جاءت وسط احتلال بذريعة توليد دولة، لا نرى منها شيئا.
ذات زمن وقعت اعتداءات إسرائيلية على الشعب الفلسطيني فخرج الآلاف في رام الله وأشعلوا الشموع على طريقة العرب في عواصم عربية تضامنا مع الشهداء، ولحظتها أدركت أننا أمام التحول الأخطر، أي إخراج الضفة الغربية من الصراع مع الاحتلال على نطاق واسع، وتعريب الضفة من خلال ردود الفعل المشابهة لغيرها من عواصم عربية، وكانت تلك الليلة فاصلة لمن يراقب بدقة، فالضفة تتضامن، كما بيروت أو الرباط أو تونس، ولا تنتفض في وجه الاحتلال، باستثناء بؤر فلسطينية لم تتمكن السلطة وقتها، ولا الآن من تطويعها بشكل كامل، وهذا يعني أن التطابق بين السلطة والنظام الرسمي العربي، أريد له أن يمتد إلى التطابق بين أهل الضفة وبقية الشعوب العربية التي يتفرج بعضها، ويألم، ويتأسف، ويشعل شمعة في ظلامات ليل فلسطين. كل هذا معا، يعني مشروعا للتطويع، دون ثمن، ودون فاتورة يتم تحصيلها للشعب الفلسطيني، تطويع لمجرد أن هذه هي اللحظة، وهذه هي أدواتها، ومشاريعها، ومستقبلها الصعب أيضا.