في الإدارة العامة بزمن الأزمات ليس هناك أسوأ من غياب الأولويات، ينطبق ذلك على إدارة أصغر مؤسسة وصولا إلى إدارة دولة. وفي حالتنا اليوم بإدارة الأزمة المتشعبة التي خلقها وباء كورونا على المستوى الوطني تبدو الحاجة ملحة لإعادة ترتيب الأولويات وتحديد المهم ثم الأقل أهمية فيها بحيث لا تتشتت الجهود والإدارة في معالجتها والتعامل معها.
هذا الأسبوع سجلت الإدارة العامة للأزمة مرونة وانفتاحا مهما في باب تخفيف الحظر على الحركة والنشاط التجاري والخدمي والصناعي وفي الرفع التدريجي للحظر، وبما طال شمول محافظات جديدة بإجراءات تخفيف الحظر والعودة للحياة الطبيعية إلى حد كبير، وأيضا في إعادة فتح العيادات الطبية والمطاعم والمحال وأوجه النشاط الاقتصادي في عدة قطاعات وإعادة عمل النقل العام والخاص ضمن محددات ورفع نسب العمالة المسموح لها بالعمل في الأنشطة الصناعية.
طبعا كل ذلك اعتمد أساسا على ما تحقق من الناحية الصحية والوبائية والوصول إلى انحسار الحالات المسجلة بالفيروس والحد من انتشاره، لكن هذا الإنجاز الصحي سيبقى قيد المراقبة والمتابعة لأن الوباء لم ينته بعد لا محليا ولا عالميا، وثمة احتمال لعودة انتشاره محليا بحسب تقييمات المختصين، ما يستدعي استمرار الموازنة بين الأبعاد الصحية الاحترازية وبين ضرورة الإعادة التدريجية للحياة والنشاط الاقتصادي، وهنا تتجلى الحاجة لإدارة الأزمة وفق الأولويات دون تشدد زائد ومعيق ودون أيضا تراخ وركون زائد أو الانسياق وراء الشعبوية التي لا تقدر مصلحة عامة.
الإجراءات المرنة الأخيرة كانت ضرورية، ولا شك أنّ العديد منها كما في قصة استخدام السيارات الخاصة جاءت استجابة حكومية للانتقادات الشعبية الواسعة للتشدد الذي كان سائدا وبصورة غير مفهومة، لكن هذه المرونة والاستجابة الرسمية أغرت العديد من الأوساط للضغط والمطالبة بإنهاء التشدد على بعض التجمعات العامة دون تقدير للخطورة الوبائية التي يمكن أن تنتج عنها، وأكثر هذه الدعوات جدلية كانت الدعوة لإعادة فتح المساجد والكنائس للصلاة والعبادة، وهي دعوات قد تنطبق لاحقا على اجتماعات الهيئات العامة والمباريات والأعراس والمناسبات الاجتماعية الجماعية من جاهات وعطوات وبيوت عزاء وغيرها.
ليس هناك أجمل من إعادة فتح بيوت الله، كما من الجميل والرائع أن نعود لتقاربنا الاجتماعي والإنساني بمناسباتنا واحتفالاتنا، لكن إذا كان في ذلك احتمال قوي بتوفير البيئة المناسبة لنشر العدوى بين الناس وعودة الوباء حتى لو بنسبة 20 أو 50 بالمائة فألا يصبح ذلك إلقاء للنفس بالتهلكة وبما يخالف مقاصد الشريعة والأديان والقوانين وحق الإنسان بالصحة والحياة.
أمام الحكومة والمجتمع اليوم أولويات واضحة يفترض ألا تتقدمها أولويات أخرى يمكن تأجيلها والصبر عليها، وعلى رأسها الحفاظ على الصحة العامة والبقاء في دائرة السيطرة على الوباء وعدم عودته للتفشي، ثم تأتي الأولوية الثانية التي لا تقل أهمية عن الأولى وهي عودة عجلة الإنتاج والتشغيل وفتح المحال والمؤسسات بصورة تدريجية ومحسوبة للخروج من الأزمات المعيشية والاقتصادية الخانقة، وأيضا عودة المؤسسات الرسمية الخدمية والعلاجية والتعليمية إلى العمل قدر الإمكان، وبما يساعد في مواجهة التداعيات الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية الصعبة التي سيخلفها وباء كورونا لفترة طويلة مقبلة.
إدارة الأزمة لم تنته ولن تنتهي قبل عدة أشهر مقبلة وربما لفترة أطول بكثير حسب بعض السيناريوهات المتشائمة، وما تحقق من إنجازات فيها على صعيد الحد من انتشار الوباء أمر مهم وإيجابي، إلا أن الأهم الآن المحافظة قدر الإمكان على الوضع الوبائي كما هو، مع التركيز على أولوية الوضع الاقتصادي والمعيشي للناس بعيدا عن الإنجرار وراء بعض الشعبويات التي يمكن أن تنسف كل ما تحقق حتى الآن.