غالبية الناس تعيش اليوم ضنكا كبيرا، خصوصا مع ارتفاع كلف الحياة، وتآكل الدخول، وأيضا مع تردي واقع الخدمات الأساسية المقدمة للمواطن، وهو أمر واضح تماما، ولا يجرؤ أحد على محاولة طمسه أو إنكاره.
والثابت أيضا، أن الحكومة الحالية وما سبقها من حكومات عديدة، ساهمت إلى حد كبير في الوصول بنا إلى هذه الدرجة من التردي وصعوبة العيش، وأيضا في إغراق البلد بوضع اقتصادي صعب، يتطلب الخروج منه إجراءات قد تزيد الأمور صعوبة على المواطن.
التململ موجود بين المواطنين، وفي جميع القطاعات، وقد شهدنا خلال الأيام الماضية إضرابا لأصحاب الشاحنات ووسائل النقل العام، وهو مستمر حتى اليوم، لكنه حتما سينتهي في آخر المطاف كما انتهى ما جاء قبله من إضرابات واحتجاجات، كإضراب المعلمين والضغط النقابي المطلبي، وقد نشهد لاحقا إضرابات لقطاعات مختلفة، ولأسباب متنوعة.
الاحتجاجات المطلبية، خصوصا ما يتصل منها بالأمور المعيشية، أمر معتاد في جميع دول العالم، والتي تشهد مثل هذه الحالات، وهناك دول عديدة يتعدى فيها الاحتجاج الشكل السلمي، ليتطور بالغا ذروته ومؤثرا على أمن الدولة والسلم المجتمعي. ومع ذلك، فإن تلك الدول تتجاوز تلك الاحتجاجات وتتخطاها، لتؤسس لفهم جديد في تعاطيها مع القطاع المحتج وغيره من القطاعات.
في الأردن كذلك، سيمضي الأمر ويصبح من الماضي، ففي النهاية نحن نعيش في دولة مؤسسات لا يمكن أن تسمح بأن يتصاعد الأمر ويتجاوز الحدود الآمنة، أو أن يؤثر على أمن الدولة والمجتمع. نقول إن الأمر سينتهي، ولكننا نأسف كثيرا لكوننا لا نراكم الخبرات ولا نتعلم من سياقات حدوث الأزمات!
خلال السنوات القليلة الماضية، كانت لدينا نماذج عديدة ومتنوعة من الاحتجاجات، والتي نعلم تماما كيف نشأت أسبابها، وكيف تطورت، وأيضا نعلم كم استنزفت موارد من مؤسسات الدولة في سبيل محاولات تطويقها والوصول إلى توافق بشأن المطالبات الناشئة عنها. لكننا بالتأكيد لم نلجأ إلى تحليل سياقاتها الموضوعية، ولا إفرازاتها الآنية والمستقبلية، لكي نضعها درسا للتعلم في ما سيأتي من أزمات محتملة في المستقبل.
التفكير التراكمي العميق غائب فعلا عن عقل الحكومات التي تحاول أن تتعامل مع جميع الأمور بـ”القطعة”، لا بخبرة مؤسسية مبنية على فهم عميق للمجتمع وتحدياته العديدة التي نشأت خلال العقود الماضية، والتي بدأت فيها الدولة بالتحول عن دورها الرعائي نتيجة لكثير من الأزمات التي عصفت بالمنطقة، والتي أثرت كثيرا على أرقام النمو الاقتصادي لدينا، وبالتالي حدّت بشكل كبير من قدرة الدولة على دعم المواطن، والذي بدوره بات يشعر أن الدولة تخلت عنه، من دون أن يربط التغيرات الوطنية بالمؤثرات الإقليمية والدولية الحاصلة، خصوصا مع انكفاء غالبية الدول على داخلها، وتغير خريطة التحالفات السياسية والاقتصادية.
كل هذا حدث ويحدث، غير أن الحكومات المتعاقبة تعاملت مع الأمور بشكل عادي جدا، كما لو أنه لم تكن تغيرات جوهرية تفرض نمطا جديدا من الإدارة، وأيضا فهما جديدا لتحديات الناس الذين يريدون حياة مقبولة لهم، ومستقبلا واعدا لأبنائهم.
ولعل الأهم والأخطر، هو أن تلك الحكومات لم تبادر إلى تبني حوار وطني حقيقي يشرح التغيرات الحاصلة، ولم تضع خريطة طريق لتقود المواطن إلى بناء منظومة الأمل من جديد. نظن أن هذا الأمر هو أكبر الغائبين عن فضائنا العام اليوم؛ فهل سنستدركه؟!