الأحد 2024-11-24 10:50 ص

ابشر بالفزعة

02:58 م
في الأحاديث واللقاءات العابرة قد يتطوع أحد ودون مناسبة بالقول «ابشر بالفزعة». المصطلح الذي أصبح شائع الاستخدام لا يحمل نفس الدلالات التي كان يستخدم فيها عندما كان المجتمع مختلفا في تنظيماته وعلاقاته. فقد كان للمفهوم معنى إيجابي يرتبط بالتعاضد والتعاون والعمل معا على تجاوز تحديات الطبيعة أو إنجاز المهام الزراعية التي تتطلب إسنادا. استخدام هذا المفهوم على نطاق واسع وفي مجتمع يحكمه القانون وتقوم على خدمته مئات المؤسسات التي وصلت إلى أعلى درجات التنظيم يشير إلى وجود خلل ما ويستدعي مراجعة وتوضيحا لحدود الاستخدام والدلالة.


بالرغم من التحولات التي شهدتها البلاد في جوانب العمران والتعليم وتشكل المؤسسات وإيجاد تنظيمات إدارية واقتصادية واجتماعية لا تختلف في هياكلها وتوصيفها عن المؤسسات الموجودة في العالم الصناعي، إلا أن الكثير مما يجري داخل هذه البنى بقي محكوما بالقيم والأفكار والمعتقدات التقليدية الموروثة. مع كل التقدم في الوسائل والأدوات لا تزال بعض الممارسات وأساليب العمل والتحفيز والتقييم ترتبط بنمط الحياة الرعوية الزراعية أكثر من ارتباطها بقيم وأساليب العمل في المجتمع القائم على التخصص والتقسيم الدقيق للعمل والفصل بين الأدوار.

في بلادنا لا تزال القيم والمعتقدات وأساليب الحياة والمشاعر التي لازمت الحياة في مراحل الرعي والزراعة حاضرة بقوة. فمع كل النظريات والأفكار الجديدة هناك من يرى اليوم أن أسماء عشائرهم وبلداتهم وشبكة اتصالاتهم وانتماءاتهم ومعارفهم عوامل أساسية في تحديد نوعية الفرص التي سيحصلون عليها في الحياة والعمل بصرف النظر عما يحملون من مؤهلات علمية وما يمتلكون من مهارات وقدرات.

المظاهر البراقة للمؤسسات والحديث المنمق للمدراء والرؤساء والكم الهائل من النصوص القانونية والتنظيمية والهياكل التنظيمية التي نجدها في وثائق المؤسسات وعلى المواقع الإلكترونية لا تقول الكثير عن كيفية صناعة وتنفيذ القرار داخل هذه البنى فالكثير مما يجري يخضع لمنظومة علاقات وتأثير متبادل بين عدد من الأفراد يجري اختيارهم بعناية وعلى أسس لا ترتبط بالأقدمية والقدرة بقدر ما تتعلق بالثقة والولاء للإدارة.

تسطيح النظم المؤسسية وربط القدرة والسلطة بالموقع والدور قد يصطدم بشهوة بعض الرؤساء للاستحواذ على السلطة والتفرد بالقرار من خلال أذرع وأيد يجري انتقاؤها وتطبيعها وتحفيزها للقيام بكل ما يطلب منها. في مثل هذه الأوضاع تصبح المؤسسة أقرب في الأداء إلى النظام الرعوي أكثر من ارتباطها بروح العمل المؤسسي المبني على تقسيم دقيق للعمل ونهوض كل فرد بمهام وواجبات الدور وصولا إلى عمل الجميع على إنفاذ المهمة بدقة واتقان وضمن معايير يمكن الرجوع إليها لقياس الأداء والوقوف على مستوى الإنجاز.

الاستخدام المفرط لمصطلح الفزعة أصبح دارجا وبشكل يشعرك أنك في مواجهة فيضان أو عاصفة أو حرب تحتاج إلى تدخل أبطال لتحقيق الخلاص. الفزعة مفهوم تحفيزي كان الناس يستخدمونه للوقوف في وجه الغزو حيث تتظافر جهود القبيلة وتستدعي فرسانها لدحر الغزاة وتحرير ما سلب من مواشيها وممتلكاتها. الاستقواء بالعشيرة أو بأشخاص آخرين مع وجود القانون فيه دعوة إلى الفوضى والتحريض على تحدي القانون.

الحوارات والتفاعلات اليومية بين الأشخاص لا تخلو من إشارات إلى الفزعة كأن يقول أحدهم للآخر بأني بحاجة إلى فزعتك أو فزعت له. خلال الانتخابات التي تجري في البلاد يسرف الناس في استخدام مصطلح الفزعة أو ابشر بالفزعة الأمر الذي يشير إلى أن الناس يناصرون أشخاصا ولا يكترثون لبرامج.

اليوم ودون أدنى تفكير يتحدث الناس عن الفزعة بصيغ ودلالات متباينة. تارة باعتبارها تعبيرا عن النخوة والإسناد والولاء، وأخرى باعتبارها عملا غوغائيا غير منظم يقوم به أشخاص لتمكين آخرين من الوصول إلى أهداف أو غايات ومصالح يصعب الوصول إليها بلا تدخل، وفي بعض الحالات كتعبير مجاملة وتقرب.

دلالة المفهوم تعتمد كثيرا على السياق الذي يستخدم فيه وصلة السامع بالموضوع والموقف الذي يجري فيه الاستخدام. المؤسف أننا اليوم نسيء استخدام مفهوم الفزعة من خلال استخدامه في غير مكانه، ونتناسى أنه قد نشأ حين كانت القبيلة وحدة سياسية مستقلة لها بناؤها ووسائل إنتاجها وتنظيمها وأدوارها وقيمها.
gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة