كما كان متوقعا، الاجتياح الروسي لأوكرانيا تم دون حرب من قبل الغرب أو حلف الناتو. اقتصرت المواجهات على مقاومة من القوات الأوكرانية التي لا تقوى على مواجهة الجيش الروسي، وتوغل الجيش الروسي دون أي عناء سائرا نحو إخضاع دولة بأكملها بعدد سكان 44 مليون نسمة تحت سيطرته.
إنه التطبيق العملي لقناعات روسيا أن أوكرانيا جزء من فضاءات النفوذ الخاص بها، والتي لن يسمح لقوات الناتو التواجد فيها، كما لن يسمح لأوكرانيا أن تكون عضوا في حلف شمال الأطلسي الناتو. عقلية استراتيجية تنتمي للحرب الباردة لا تتعاطى مع متغيرات العالم العديدة التي حدثت منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.
لا يمكن فهم ما يحدث، وبالتحديد الموقف الأميركي، دون النظر للعلاقة بين أوروبا وأميركا عبر الأطلسي. أميركا غير معنية بمواجهة روسيا في أوروبا إذا لم يكن الأوروبيون مستعدين لذلك، وأميركا لن ترسل جنودا أو تقاتل بالنيابة عن أوروبا، وهي غير معنية ولا مصلحة لها أن تكون شرطي العالم، وهذه ذهنية تبلورت منذ عهد كلنتون.
الأوروبيون لا يريدون القتال أو المواجهة، يعلنون ذلك صراحة، وعليه فقد اقتصرت المواجهة الغربية على نظام عقوبات ما يزال يتشكل بتصاعد.
ربما هذا هو الأسلوب الأفضل لمواجهة ما حدث، العقوبات ليست بسرعة وفعالية القوة العسكرية، هذا صحيح، لكنها ليست بلا طائل، ستدفع ثمنها روسيا كثيرا وغاليا، والأرجح أنها ستنحو للتسوية طمعا بتخفيف العقوبات.
العقوبات سوف تؤذي الاقتصاد الروسي المترنح أساسا، وهذا سيكون له تكلفته الأمنية والسياسة. روسيا بدأت نزاعا لن تستطيع إنهاءه، ولن تقوى على تكلفته، وانتصاراتها العسكرية الحالية، وإن كانت تعطيها انتشاء سياسيا الآن، إلا أنها مكلفة موجعة ستكبد روسيا أثمانا كبيرة.
يبدو السلوك الروسي خارج السياق التاريخي تماما، فتنافس الدول ونزاعاتها له ميادينه الأخرى الآن من تقدم اقتصادي وتكنولوجي، أما أن تقوم دولة باجتياح أخرى فتلك عقلية القرن الثامن عشر وأسلوب ستالين في الحكم وليس القرن الواحد والعشرين.
أسلوب روسيا عكس أسلوب الصين تماما، التي حققت معجزتها الاقتصادية بالعمل ضمن قواعد اللعب العالمية، وبتجذير عقيدة النمو بالسلم دون النزاع أو الحرب كعقيدة سياسية راسخة للدولة الصينية، ولم يمتلك الغرب لذلك إلا أن يتبنى مبدأ التنافس الاستراتيجي السلمي الذي سيجني ثماره الجميع.
ما حدث ليس عودة للحرب الباردة، كما يعتقد بعض من بني يعرب، فلا روسيا تقوى على ذلك، ولا الغرب يريد ذلك. ما حدث حالة انفعال روسية غاضبة لما آلت إليه أوضاعها من تهميش في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وعدم قدرتها على أن تكون طرفا فاعلا في عالم قدرات الدول التكنولوجية والاقتصادية تتفوق بالأهمية على قدراتها العسكرية.
روسيا ستتكبد ثمن قرارها وهذا سيزيد من عزلتها الدولية، وعندما يأتي وقت التقييم للقرار الروسي سيقيم أنه غير عقلاني، عمق من تحديات روسيا الاقتصادية والتكنولوجية، وسيؤخرها عن اللحاق بركب العالم المتسارع في التنافس.