انخرط الأردنيون في الاحزاب قبل تشكيل الإمارة، حيث انضم بعضهم الى حزب الاستقلال السوري، وسرعان ما انشأوا «فرعا» لهذا الحزب بعد استقلال الإمارة، وشارك الحزب في أول حكومة أردنية برئاسة رشيد طليع العام 1921، شكل بعدها الأردنيون الأحزاب ومنها حزب الشعب الأردني العام 1927، الذي دعا لإنشاء مجلس نيابي منتخب، وهذا الحزب هو الاكثر مقاومة للانتداب، والاطول عمرا من الاحزاب، اذ استمر اكثر من خمس سنوات.
استمرت التجربة الحزبية الأردنية فظهرت حركة الاخوان العام 1943، ثم الحزب العربي الأردني العام 1946، وحزب الشعب الأردني العام 1947، والحزب الشيوعي الأردني العام 1951، وبعده بسنة حزب التحرير 1952، إلى ان وصلنا الى الحزب الوطني الاشتراكي العام 1954 الذي شكل «الحكومة الوطنية» برئاسة سليمان النابلسي، وكان هذا آخر عهدنا بالأحزاب، حيث تم إعلان الاحكام العرفية التي امتدت لعام 1989. صدر بعد ذلك قانون الأحزاب لعام 1992 الذي نظم تشكيل الأحزاب السياسية علما بأن منع الأحزاب السياسية في ظل الاحكام العرفية لأكثر من ربع قرن، لم يمنع قيام وانتشار العمل الحزبي الأردني السري، الذي ضم الى جانب الاحزاب المذكورة اعلاه أحزابا كانت واجهة لمنظمات فلسطينية، إضافة الى الاحزاب التي تدين بالولاء السياسي لدول عربية مثل العراق وسورية ممثلة بحزب البعث والاحزاب القومية. وعلى طول هذا الخط منذ العام 1946 وحتى يومنا هذا، فإن حركة الاخوان المسلمين، هي الحركة الوحيدة التي ظلت «شرعية» تعمل على الارض بشكل علني، وإن شاب علاقتها مع النظام شد ورخي حتى وقتنا هذا.
من غير المنصف انكار جهود الاحزاب القائمة، ومحاولاتها التأثير في الحياة السياسية، لكن تأثيرها الفعلي على الارض قليل مقارنة بدورها المتوقع، ودون الدخول في التفاصيل فإن الدولة وعقلها السياسي، وبعد ان سمحت بالعمل الحزبي قد تعاملت مع الاحزاب باعتبارها «عدوا محتملا» ومارست معها وبها لعبة «تدجين الديمقراطية» حيث كانت في اغلب الاحيان شكلا اكثر منها مضمونا سياسيا لتداول السلطة السلمي والمساهمة في التنمية المستدامة للوطن. الأحزاب البرامجية متطلب اساس للوصول الى الحكومات البرلمانية، والتي هي حلم وطموح جلالة الملك منذ ورقته الثانية، وما نحتاج التأكيد عليه في هذا الصدد ان المهمة الاساسية للجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، ليس في وضع توصيات صماء؛ بل وضع نص تشريعي للوصول الى الهدف النهائي – برلمان حزبي برامجي – عبر سيرورة تضمن الانتقال من الواقع الموجود الى الواقع المأمول، ورغم وضوح هذه الفكرة إلا أن توصيات اللجنة تؤخذ – في كثير من الاحيان- بجريرة الوضع الراهن الذي تسعى التوصيات ذاتها لتغييره.
عزوف الناس عن الاحزاب – لأسباب نعرفها- يقتضي اعادة هيكلتها في الحياة السياسية لتصبح اداة تعبير «الأمة» عن سلطتها باعتبارها مصدر السلطات. ما يسعى إليه جلالة الملك – وأعتقد ان رسالته وصلت لأغلب الاطراف المعنية – هو توجيه العمل السياسي ليكون عبر الاحزاب، في بيئة وطنية برامجية عمادها الرجل والمرأة. ولكن حتى لا نخدع أنفسنا ووطننا، فإن الاحزاب كضرورة ومتطلب لتحديث الحياة السياسية ليست كافية لنجاح التجربة التي نسعى اليها، بل ان التوجس الذي يحيط بمخرجات اللجنة مشروع الى حد بعيد، وعلى الدولة وعقلها السياسي ان تعي اننا هذه المرة امام ذهن الفرصة الاخيرة، وان مصداقية النظام والدولة على المحك، وان التخلي عن وضع التحديث موضع التطبيق الفعلي من قبل اي جهة في الدولة فيه تفريط بسلامة الوطن.
ومن جانب آخر، فإن المصلحة الوطنية تقتضي ان يكون التحول الحزبي مرحليا، لأن الساحة الحزبية لم تنعم بتكافؤ الفرص بين الاحزاب، وان العدالة في تمثيل الناس واطيافها تقتضي ان تنظم الواقع؛ لتعطي لمن حرم او لوحق من الاحزاب اكثر من غيره فرصة الوصول لبرنامجه وجمهوره، ولهذا جاءت فكرة تخصيص مقاعد للأحزاب؛ لإعطائها فرصة البناء والتواجد على الارض.
إن الإستراتيجية المرحلية في مشروع قانون الاحزاب تمثل فهما حقيقيا لطبيعة الفضاء السياسي الأردني ذلك ان اللجنة الملكية لم تأت لتضع تقريرا، بل لترسم «تشريعيا» خريطة طريق لتحويل الواقع المأزوم الى واقع مأمول، خدمة للأردن الديمقراطي التقدمي الزاهر، وان غدا لصانعه قريب، فاهم علي جنابك؟!