زادت الحالة العامة التي صاحبت الحياة في ظل جائحة “كوفيد -19” من أهمية الأخلاق والقيم الاجتماعية في السياسة والاقتصاد، ولم تعد الأفكار والدعوات التي انطلقت منذ التحولات الكبرى التي شهدتها المنظومة الرأسمالية العالمية في أواخر ثمانينيات القرن العشرين؛ في ضرورة أن يكون للسياسة والاقتصاد محتوى أخلاقي للحفاظ على العلاقات الدولية والسياسات العامة في وجهة السلام والاستقرار، مقولات نظرية معزولة، بل تبدو ضرورات سياسية لحماية العالم من الانهيار والفوضى. واليوم، أكثر من قبل، تتحول السياسات الاجتماعية والأخلاقية للدول والشركات إلى موارد اقتصادية مباشرة أو قوة ناعمة مؤثرة في السياسة والأسواق.
ويطرح “آلن بيرفت” سؤالاً في كتابه “المحنة الفرنسية”: هل ينبغي استبعاد واقع أن أكثر السمات غير المادية في المجتمع، كالدين والأساطير والمحرمات، ودوافع العمل، والموقف تجاه السلطة، وردود الفعل التاريخية، وأخلاق الفرد والجماعة، والتربية والقيم.. تعدل من سلوك كل شعب، وتحور مسار كل حضارة حتى في أكثر المجالات مادية، كالاستثمارات والإنتاج والتبادل ومعدلات النمو؟ ولمَ يتم اختزال الاقتصاد في مواد أولية، ورؤوس أموال، ويد عاملة؟ ولمَ لا يكون قبل أي شيء آخر ثقافة مواتية للاقتصاد؟ وماذا لو كانت الديمقراطية لا تنحصر في المؤسسات، بل تتطلب حساً قادراً على تفعيلها؟ ماذا لو كان هذا التأثير للعامل الثقافي هو السبب الحاسم – وليس الوحيد بالطبع – للتخلف والتقدم الاقتصادي وللأزمات كما للتوازنات السياسية؟
فكرة رأس المال الاجتماعي المنشئ للازدهار، تقوم ببساطة على أن الأمم تحمي منجزاتها وتطلعاتها بمنظومة اجتماعية وثقافية من القيم والأخلاق والسلوك الاجتماعي والأفكار، لكن أيضاً يجب أن يكون لديها الوعي الكافي بأهمية وقيمة التقدم، وبغير ذلك تهدر فرص التقدم والحياة الأفضل. كيف تؤدي قيم التعايش مثل السلام والمحبة والتسامح والتعاون والاعتدال والصداقة.. إلى الازدهار والتقدم؟
إن الأمم تحمي مواردها بنظام اجتماعي قائم على السلام والتضامن والتعاون، وتنشئ قيم الاعتدال والتسامح والإبداع والتنوع والثقة والاستقرار، وبذلك تجتذب الكفاءات والأعمال والتجارة والسياحة والاستثمار، وتشجع الأسواق والمصالح ورأس المال المغامر، إذ تتحول إدارة المال من الادخار، أو الاستثمار الكسول، إلى مجالات حيوية تزيد التشغيل والمشاركة الاقتصادية والاجتماعية، مثل الصناعات الإبداعية، وتطوير الحياة والمهارات، والمشاركة في الاقتصاد العالمي، حيث تزيد الثقة والتعاون بين الناس، وتنمو المعرفة والأعمال وتتطور، وتنخفض الأعباء والتكاليف الأمنية والإدارية.
ويشكل التواصل الاجتماعي أساس الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية للأمم، وتساعد الثقة العائلية على إقامة شركات عائلية، لكنها تظل محدودة ومهددة، وأما الشركات الكبرى فلا تقوم إلا في مجتمعات تتمتع بثقة عالية تتجاوز القرابة، لذا لم تظهر الشركات المساهمة إلا في منتصف القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة أولاً، ثم في ألمانيا بعد ذلك بقليل، ولم يكن ممكناً تطوير الاقتصاد إلا بتجاوز النظام العائلي في الأعمال والشركات.
وتشكل اقتصاديات العمل التطوعي جزءاً مهماً ومؤثراً في الاقتصاد العالمي، ويشارك فيها حوالي مليار شخص، وبالإضافة إلى أبعادها الإنسانية وما تمنحه للأفراد والمجتمعات من معنى كبير، فإن العمل التطوعي في الحقيقة يمثل مدخلاً أساسياً لا يمكن الاستغناء عنه، في جميع الأحوال، في التشكلات الاجتماعية والسياسية والاختيارات الطبيعية للنخب والقادة المحليين والاجتماعيين، وعلى أساسه يتقدم الأفراد غالباً في مجتمعاتهم وبيئاتهم التي يعملون ويعيشون فيها، ذلك أنه وببساطة، درجت الأمم في التاريخ والجغرافيا أن تقدم الناس على أساس الأكثر قدرة وحرصاً على خدمتها، وفي التراث العربي والإنساني أيضاً أن سيد القوم خادمهم، وهي مقولة تعني أن من يسود جماعة يجب أن يخدمها، أو أن من يخدم جماعة يصبح سيدها.