ولتدرك معنى ذلك ومغزاه التربوي تأمل وتابع الأطفال كيف يبدأون في التعلم منذ ولادتهم وإلى حين التحاقهم بالمدرسة.
تكتشف أنهم يتعلمون أصعب المهارات عليهم بإتقان بالانغماس في تعلمها لتلبية حاجاتهم الحياتية أو البقائية إليها، وتساعدهم الأم وبقية أفراد الأسرة على ذلك.
إنها تأخذ بأيديهم وتصبر عليهم إلى أن يتقنوا المهارة بالمحاولة تتلو المحاولة وكله بالتفاعل كالإبصار، والابتسام، والضحك المتبادل، والحبو، وتناول الطعام بالمعلقة أو بالشوكة أو بالعودين في الصين، والمشي والكلام واللهجة، كما يتعلمون لبس ملابسهم وقضاء حاجاتهم عندما يحتاجون إلى ذلك.
وكما ترى فكلها مهارات صعبة جداً بالنسبة للطفل/ة ولكنهما يحاولان تعلمها بالانغماس فيها لأنها لازمة لهما. ومع هذا فإن كل طفل/ة سوي/ة في العالم – أي غير معوق حركياً أو عقلياً – يتعلمها بالمحاولة وصبر الأم والأسرة عليه ليتعلم، وإن المسألة مسألة وقت أو تفاوت ضئيل فيه سرعان ما ينتهي، أي أن النتيجة واحدة.
بل إن بعضهم يتعلم المزيد منها إذا كانت ظروف بيئته تتطلبها كتعلم السباحة في بحر أو في نهر قريب، أو ركوب الدابة إذا كانت الأسرة تستخدمها، وهكذا ترى ثانية أن هذا التعلم لا يتم في فراغ. إنه ينشأ ويستمر بالانغماس في التعلّم وإن الطفل يقبل عليه ويستمر فيه وإن وقع مثلاً عدة مرات عدة على الأرض في محاولة الوقوف والمشي… لأنه بذلك يلبي حاجاته في البقاء.
لو فكرنا في الأمر محلياً فإننا نفهمه عالمياً، بمعنى أن كل طفل سوي قادر على تعلم أي شيء إذ علمه بالانغماس وبطريقة صحيحة، وأن قدرات الطفل/ة على التعلم غير محدودة .. ومن ذلك أن الأعضاء اللازمة لهذه المهارات هي نفسها عند كل طفل/ة، أي لا توجد أعضاء مختلفة أو خاصة منها في مجتمع أو بيئة أو ثقافة. إنها هي هي عند جميع الأطفال وبعبارة أوضح أقول: لا يوجد جهاز بيولوجي خاص بكل لغة في هذا العالم الذي تبلغ لغاته ولهجاته الآلاف.
إن الطفل/ة يتعلمها جميعاً بالجهاز نفسه وفي الوقت المناسب، وكأنه يتعلم آلاف اللغات واللهجات. أفلا يدل ذلك على أن قدرة الطفل/ة السوي/ة على التعلم غير محدودة إذا أخذ بيده في أثناء التعلم وأعطي الوقت اللازم للتعلم؟!!! ادعوك يا قارئي العزيز إلى استرجاع طفولتك أو إلى مراقبة طفلك الوليد لإدراك ما أعني. وعندما تفعل فإنك تفهم معنى التعلم، وبالتالي كيفية التعليم اللازم لتعلم ناجح.
ما أن يتقن الطفل/ة في الأسرة المهارة اللازمة حتى يأسر العين، ويتحدث والده عن ذكائه الملفت للنظر، وعن مهاراته المتفوقة حتى عليه فيها. ولكن الوضع ينقلب – للأسف وفساد العلف – في المدرسة رأساً على عقب بنظرية تعلم بائدة كنظرية الذكاء الثابت القابل للقياس، وبما هو يقابل، لأن الذكاء ليس شيئاً كمياً فيقاس. إنه عملية (Process)، أو بنظرية سكنر البافلوفية الانعكاسية أي بالجوائز كما في حالة الفأر في الصندوق مع الموز أو بالعلامات كما في الحالة المدرسية.
وهكذا تقسم هذه النظريات أو الأفكار المسبقة عن الأطفال إلى أذكياء، ومتوسطي الذكاء، وأغبياء، وتعاملهم على هذا الأساس، وترتبهم عليه أو تستخدم الجوائز الملونة كالنجوم وغيرها وبخاصة في رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية والعلامات فيما بعد. لحفز الطفل/ة (من الخارج) على التعلم. وللأسف يصدق الآباء والأمهات ذلك وينقلب موقفهم من التعلم والتعليم في المدرسة رأساً على عقب، فيعاقبون أطفالهم على التقصير، أو الرسوب…
هذه النظريات أو الأفكار البائدة تضع مسؤولية التعلم على الطفل وحده بدلا من وضعها على المدرسة المعلم/ة وكما كان عليه الأمر في الأسرة قبل التحاق طفلها بها. هل – حقاً – تعلم القراءة والكتابة والحساب… أصعب على الطفل/ة من تعلم الحبو أو المشي أو الكلام، أو الذهاب إلى الحمام أو لبس ملابسه وهو في عمر الزهور؟
يشكل هذا الانقلاب على الطفل/ة في المدرسة عاراً تربوياً، وأي عار على المدرسة والمعلمين والمعلمات والإدارة. والمفارقة أن هؤلاء ينسون كيف تعلموا وهم أطفال أي قبل التحاقهم بالمدرسة كل تلك المهارات الصعبة.
لمزيد من الفهم والتوضيح أجد نفسي مضطراً لدعوتك لقراءة كتابي: لا للجوائز ولا لفحوص الذكاء، وليس من باب الدعاية له.