الشارع الأردني يتابع بكثير من الفضول والارتياح الأخبار والتسريبات المحدودة حول تدقيق السلطات ببعض قضايا التهرب الضريبي وغسيل الاموال واستغلال الوظيفة العامة. في الأردن الذي يعتبر إنسانه الأكثر تعليما ووعيا في الاقليم, يتطلع الناس لليوم الذي يخضع فيه الجميع لسلطة القانون ويصبح الامتثال وأداء الالتزامات مظهرا من مظاهر الحياة العامة بعد اختفاء المحسوبيات والاستثناءات والسلوكيات الاستعراضية التي تمس جوهر وفلسفة العدل والمساواة والحقوق المتكافئة التي يجري الحديث عنها في الدستور والتشريعات والبيانات المتكررة.
الصورة التي رسمتها التشريعات ورفعت شعارات تطبيقها الحكومات المتعاقبة تحتاج إلى إجراءات حاسمة وواضحة وعادلة. في بلادنا وبالرغم من الإيمان بأن لا مناص من تطبيق الرؤى والافتراضات التي تقود البلاد نحو النهضة والاستقلال إلا أن الخوف يساور البعض من صعوبة التنفيذ لأسباب ثقافية وبنيوية وادارية.
لأسباب واضحة وأخرى يعتريها الغموض ساهم التغيير السريع في الادارة والتشريعات والتشابك بين الادارة والسياسة واستمرار اعتقاد البعض بأحقيتهم في امتيازات واستثناءات في تأخر تبني وتطبيق الحكومات لإجراءات سريعة وحازمة تنهي حالة التوسط والشراكات والتداخل بين العمل العام وادارة المشاريع والاعمال الخاصة وتكتيكات التهرب واستغلال الموقع وتداخل المال مع السياسة فتنامت المخاوف لدى الجميع من ان تستفحل الحالة وتتحول الى نهج يدفع بالمزيد من الاشخاص والعائلات للتحايل على القوانين والبحث عن الطرق الالتفافية والمخارج التي تساعدهم على تنمية ومتابعة اعمالهم ومصالحهم على حساب المصلحة العامة وبأشكال وصور مستفزة وفاضحة.
خلال الاعوام القليلة الماضية سادت البلاد حالة من الشك والاتهام الشعبي للعشرات ممن حلوا في المواقع العامة وأصبح الناس يتهمون وبلا تمييز الكثير ممن تولوا مواقع عامة في السلطات التشريعية والتنفيذية تصريحا او تلميحا على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الجلسات والدواوين وبين المحتجين لا ينجو احد من الاتهام لدرجة أصبح البعض يتردد في الاشارة الى انه أشغل موقعا عاما.
سيطرة الروح الاتهامية على قيم وسلوك وعلاقات الناس والنظرة للموقع العام ومن يشغله بأنهم موضع للشك عوامل وامراض اصبحت تضرب عصب المجتمع وتهدد الاخلاق العامة وتسهم في تراجع الاداء الحكومي وتردد الكثير ممن يتولون المواقع العامة في اتخاذ قرارات حاسمة وسريعة وتبني الكثير منهم لإستراتيجية النأي بالنفس من خلال تشكيل لجان تنظر في كل ما يمكن ان يتخذ من قرارات تجنبا لتحمل التبعات والمسؤوليات التي قد تنجم عن هذه القرارات. كل ذلك بالتوازي مع إقدام الدولة على سلسلة من السياسات والاجراءات الهادفة الى الحد من الممارسات الخاطئة والانحرافات المحتملة. ففي اقل من عشر سنوات عملت الدولة على اصدار تشريع للنزاهة وتأسيس منظومة متعددة الاركان للحد من الفساد شملت تشريعا يطالب المسؤول بإشهار الذمة المالية عند توليه للموقع العام وتأسيس هيئة متخصصة بمكافحة الفساد واستحداث ديوان للمظالم اضافة الى الاجهزة الرقابية المحاسبية والبرلمانية والاعلامية والامنية المتعددة.
لأسباب ارتبطت بنمو التجارة العالمية وحدوث تغيرات واسعة في الاقليم والاتجاه نحو خصخصة الكثير من الموارد والمؤسسات وتداخل الخاص مع العام وتوالد الهيئات المستقلة والمجالس وزيادة معدلات السفر بسبب الحروب في مناطق الجوار والهجرة الى الأردن زاد مستوى الاشتباك والتداخل بين القطاع العام والخاص لدرجات اصبح يصعب معها إدراك أين تبدأ صلاحيات القطاع العام وأين تنتهي كما حصل في الطاقة والكهرباء والنقل والعقبة الاقتصادية وغيرها.
اليوم ووسط هذه الاوضاع يحتاج الشارع الأردني الذي رحب بالإجراءات والحملات التي تديرها الاجهزة لملاحقة غسيل الاموال والتهرب الضريبي الى معرفة الإستراتيجية المتبعة في التصدي لهذه الجرائم والاسس والقواعد التي تعتمد عليها عمليات الملاحقة والاتهام والبيانات المتأتية من الملاحقة والتحقيق كما يحتاج الناس الى التأكد من شمول الاجراءات لكل من تحوم حولهم الشبهات ايا كانت مواقعهم وصلاتهم. غير ذلك فقد تنتهي الموجة دون ان تحقق المبتغى المتمثل في البرهنة على ان في الأردن دولة تؤمن بسيادة القانون وتعمل على تطبيقه وفقا للنصوص الدستورية وروح العدالة والالتزام تجاه الدولة والقسم وحقوق الاجيال.