أي مطلع، دارس، أو متابع لشؤون العلاقات الدولية وسلوك الدول وأسباب وجودها، يعلم أن إمكانية حدوث حرب بين الدول عبر الأطلسي وبين روسيا ضرب من الخيال.
لا روسيا تريد أو صاحبة مصلحة بذلك، ولا أميركا وأوروبا صاحبتا مصلحة بذلك. هذه دول على درجة عالية من المؤسسية وقرار الحرب فيها لا يتخذ نتيجة انفعال أو اجتهاد زعيم كما يحدث غالبا في العالم الثالث.
قرار الحرب في هذه الدول يتخذ بناء على حسابات دقيقة للربح والخسارة، وتحديد واضح جلي لأهداف ومبررات الحرب، ومن ثم لا يتم اتخاذ قرار بالحرب إلا بعد استنفاد كامل الأدوات الأخرى لتحقيق الأهداف، فالحرب آخر أداة تستعملها هذه الدول لأنها باهظة مؤلمة لا يجب استخدامها إلا في مسائل الحياة أو الموت، أو عندما يصبح استخدامها أقل تكلفة من عدمه.
الملم بهذه البديهيات في العلاقات الدولية كان ليستنتج أن حربا لن تحدث، وأن الأرجح كان نظام عقوبات سيجعل روسيا تستنتج أن تكلفة الغزو أكبر من عدمه ولا تستحق، وبالتالي ستنسحب روسيا من أوكرانيا على وقع العقوبات وليس المدافع.
قصة روسيا في هذا النزاع بالمجمل أضعف من قصة الغرب؛ هي لا تريد لأوكرانيا أن تنضم لحلف الناتو لأن ذلك سيجعل قوات الناتو على حدود روسيا، ما يعتبره بوتين تهديدا للأمن الوطني الروسي. هذه عقلية الحرب الباردة التي يبدو أن كثيرين بروسيا والغرب ما يزالون ينتمون اليها.
أوكرانيا ومن خلفها الناتو بالمقابل، ترى أن حقها السيادي الانضمام لأي حلف بما فيه حلف الناتو، وأن هذا لا يشكل تهديدا لروسيا وأمنها الوطني، فلا مصلحة للناتو ولا لأوكرانيا بتهديد روسيا أو غزوها.
حق الدول السيادي أن تنضم لأي حلف على ألا يشكل ذلك تهديدا للآخرين. منطق أوكرانيا أقوى من روسيا، وقد حدثت محاولات سابقة لانضمام أوكرانيا للناتو تراجعت عنها أوكرانيا تحت وقع الانفعال والغضب الروسي، والأرجح أن هذا ما حدث هذه المرة بعيدا عن أضواء الإعلام الذي مارس تأجيج التصعيد بين الطرفين.
الأرجح أن تسوية هادئة حدثت خلف الأضواء لنزع فتيل الأزمة من دون إحراج أي طرف من الأطراف وإظهار أنه أذعن للطرف الآخر، وبالمحصلة، تراجعت روسيا بعد أن ظهرت أمام الإعلام والدول ورأيها العام الداخلي أنها جعلت العالم يقف على أصابعه ويتأهب أمام القوة الروسية، وحصلت أوكرانيا وأميركا وأوروبا على انسحاب روسي معلن. الكل رابح ولم يخسر أحد لا من صورته ولا من مصداقيته.
هكذا تتصرف الدول الناضجة التي تسعى لرفاه وأمن واستقرار شعوبها، ولا تنقاد من انفعال أو انتقام، وما أحوجنا نحن بالشرق الأوسط المليء بالحروب أن نتعلم من دروس الحرب وتكلفتها، وأن نسخر مورادنا لرفاه ناسنا لا لإشعال الحروب.