ما الذي دفع الحكومة للنزول إلى الميدان، ومن أين هبطت عليها الحكمة لتأجيل رفع أسعار المشتقات النفطية لشهرين مقبلين، ولماذا يتسابق الوزراء والمسؤولون للإعلان عن مشاريع تنموية مقبلة، أو لافتتاح أخرى، بعضها تم إطلاقه منذ سنوات، هل هي صحوة رسمية يمكن أن نستبشر بها ونبادلها التحية والاحتفاء، أم أنها مجرد فزعة اقتضتها ظروف ضاغطة، وستمر مثلما مر غيرها لحكومات أسفرت وعودها عن خيبات؟
لكي نفهم ما جرى، جاءت حركة الحكومة وزيارتها لمحافظتي إربد والكرك، وربما لاحقا لمحافظات أخرى، بعد أكثر من عام ونصف على تكليفها، وتعمد الرئيس أن يلتقي عددا من المسؤولين والوجهاء فيها، وقدم خطابا متفائلا بالمستقبل، زاوج فيه بين قضايا الداخل وتحديات الخارج.
كان لافتا وجود رئيس الديوان الملكي لجانبه، ربما كإشارة لتكامل الدور والجهد بين الحكومة والديوان، أو ربما لتأكيد متابعة الديوان للمشاريع التنموية استنادا لما ورد بالرسالة الملكية الأخيرة بتشكيل ورشات اقتصادية داخل الديوان، أو ربما لأسباب أخرى.
تدرك الحكومة، أو هكذا يفترض، واقع الناس وهمومهم، كما تدرك ضيق إمكانياتها لتقديم الواجب الذي ينتظرونه منها، فليس لديها أموال ولا فرص عمل ولا مشاريع كبرى، وبالتالي لم يكن أمام الرئيس إلا أن يحسن “النطق”، وينثر الأمل ويخفف من ارتدادات ارتفاع الأسعار بوعود تثبيتها، مع إطلاق بعض المشاريع المتعلقة بتحسين الطرق والمدارس والمصانع الصغيرة والوحدات السكنية.
حسنا فعلت الحكومة، لكن هل يكفي ذلك؟ الإجابة تعكسها حالة المجتمع الأردني، سواء في المجال الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي، أرقام البطالة والفقر أصبحت صادمة ومثيرة للفزع، الأنين الاجتماعي الذي خرج من الأطراف والمضارب احتجاجا على الوضع القائم تحول لصرخات سمعناها على مدى الأشهر الماضية، وما نزال نسمعها، أما الردود الشعبية على مخرجات التحديث السياسي، فقد طالعتنا بها، بالأرقام، استطلاعات الرأي الأخيرة، بما يشير لعزوف أغلبية الأردنيين عن المشاركة بالحراك السياسي.
العنوان الذي تفكر الحكومة بالذهاب إليه هو وقف التدهور أو “التخفيف” من وطأة الأوضاع الصعبة التي يعاني منها الأردنيون، خاصة على صعيد العيش الكريم، لكن العناوين التي ينتظر الأردنيون من الحكومة (الدولة: أصح) أن تعلنها، أكثر وأكبر وأعمق من ذلك، تصور مثلا لو ذهب الرئيس للمواطنين وقابلهم وجها لوجه، وليس من خلال الوسائط الاجتماعية فقط، وصارحهم بكل شيء، ثم قدم لهم “مشروعا” وطنيا متكاملا، وأشهر من أمامهم قرارات كبرى جريئة من شأنها أن تغير انطباعاتهم، وتعيد ثقتهم بالدولة ومؤسساتها.. تصور لو حدث ذلك، كيف ستكون النتيجة؟
لقد حدث ذلك في تاريخنا الأردني قبل نحو ستين عاما (1962 تحديدا) في عهد الراحل الحسين طيب الله ثراه لوصفي التل، الذي كان سفيرنا ببغداد، بتشكيل الحكومة، ما فعله وصفي حين نزل للميدان والتقى المواطنين، ثم بدأ بإطلاق المشاريع الكبرى، وإغلاق ملفات الممنوعين سياسيا..الخ، مما تحتفظ به الذاكرة الشعبية، كان كفيلا بانفراج سياسي عام، على الرغم من أن أحوال البلد آنذاك كانت صعبة جدا.
استدعاء التجربة هنا ليس من باب المقارنة، ولا الاستغراق بالماضي، فقد تغيرت الدنيا، كما تغيرت أحوالنا، المقصود هو أننا نمر بظروف عصيبة، وربما غير مسبوقة، فرضتها علينا وقائع أصبحت معروفة للجميع، دفعت الحكومة (ومؤسسات الدولة) لتتحرك وتنزل إلى الناس، ربما استباقا لأحداث مقبلة تتغذى من الوضع الراهن، هذا الاستباق بالطبع مطلوب وضروري، لكنه بحاجة إلى روافع وأفعال سياسية واقتصادية أكبر، ومبادرات وقرارات أجرأ، عندها يمكن أن نطمئن بأن بلدنا يقف على أرض صلبة، ويسير بالاتجاه الصحيح.