يتفق غالبية الناس على أهمية المعرفة والادوات والوسائل والمال لكنهم يتباينون في معتقداتهم وآرائهم وأذواقهم ومواقفهم حيال الكثير من القضايا والاحداث والعلاقات، الأمر الذي يؤدي إلى تشكل الجماعات والتيارات والاحزاب ويفضي إلى ظهور الثقافات والتقليعات التي تجتاح الفضاء العالمي موسما بعد موسم.
في عالم تتضاعف فيه المعرفة ويتسارع النمو يبدو التغيير طبيعيا وشاملا. فهو لا يقتصر على ما يحدث في ميادين الاكتشافات والتكنولوجيا والفضاء والتنقل والترفيه والخدمات بل يتجاوزها إلى الطرق التي يفكر فيها الناس ويتفاعلون مع الغير ويواجهون التحديات ويحلون المشاكل.
في عالم اليوم لا يوجد ما يحد من قدرة الانسان على التعلم والابداع والتأثير فالإنسان يملك خيارات واسعة بعد ان اكتسب مهارات التعلم وأصبحت المعرفة متاحة له. كان ذلك بفضل انتشار المؤسسات التي تعنى بإنتاجها وتدرب الاجيال على اكتسابها واستعمالها وبعدما امتلك الأفراد القدرة على التفكير والتعبير وممارسة الحرية التي تساعدهم على الوصول والدخول والاستخدام لكل ما تحتويه خزائن المعرفة ومختبراتها. إلى جانب المعرفة فإن فرص الحراك والإبداع والشهرة والثروة والحب لم تعد محصورة بأطر ثقافية واجتماعية وعرقية بعينها بل بات من الممكن تحقيقها لكل الاشخاص في اي زمان وظرف ومكان. فلم يدر في خلد بيل غيتس أنه سيصبح اكثر الاشخاص ثروة أو انه سيحقق النجاح والشهرة اللذين تحققا له, كما لم يخطر ببال الإعلامي الأشهر في شبكة CNN لاري كنغ أن تقع ابنته في حب شاب مسلم يعمل سائقا لتاكسي أجرة في مدينة نيويورك وتطلب الزواج منه. بالأمس كنت أشاهد عددا من الفيديوهات لشباب وصبايا عرب يحاولون تقديم فقرات لأغاني الراب باللغة العربية من شوارع اكثر المدن الإسلامية قداسة ورمزية. لم يخيل إليّ أن أرى يوما مثل هذا المشهد في مثل هذا المكان لكن التغير أثّر على كل شيء وأخرج بعض الأمور من سياقها.
المستغرب فيما يحصل لإقليمنا ليس سرعة التغيير بل ما يكشف عنه الانفتاح من اختلاف ثقافي بين ابناء المجتمع الواحد الذي طالما اعتقد الجميع أنهم متوافقون ومتفقون على كل شيء. من الواضح تماما أن هناك تماثلا في طرق تفكير وشعور وذوق وسلوك ابناء الجيل الواحد أيا كانت طبقاتهم ودولهم اكثر بكثير من التماثل بين الكبار والصغار من نفس المجتمع. هذه الحقيقة تفسر وتوضح إقبال الشباب العربي على تقليد موسيقا وغناء الراب وتجاهلهم للزجل والسامر اللذين وجدا في الثقافة العربية ولا يختلفا كثيرا عن الراب الذي نشأ في أحياء وضواحي المدن الأميركية للتعبير عن هموم ومشكلات هذه المدن والاحياء. الشباب العربي الذي يمارس هذه الفنون يقلد ويحاكي أداء النجوم الاميركيين الذين برعوا في استخدام هذا الصنف من الفنون ووظفوا الاغاني لتصوير معاناة الاحياء الفقيرة ومشكلاتها لرغبة قوية وعميقة في التوحد مع هذه الثقافة وتقدير ما فيها من حرية تعبير وتحد وفرص نجاح لا يجدونها في المجتمع العربي الذي يهيمن عليه اصحاب السلطة والكبار ورجال الدين والبوليس.
زيارة أحد نجوم الراب إلى بلد شرق أوسطي واعتراضه على نمط المعاملة التي تلقاها في مطار ذلك البلد أدت إلى استرضاء النجم بإهدائه ساعة وسيارة تفوق قيمة كل منهما المجوهرات التي يحرص المغني على اصطحابها معه اينما ذهب. في عالمنا يقمع الشاب مرارا كل يوم وقلما يحتج او يعترض على المعاملة. التوحد مع الثقافة التي ولد فيها الفن تعبير عن حلم الشباب في الوصول إلى مستويات أفضل من حرية التعبير والاجتماع والنقد والمشاركة. في فيديوهات الأغاني والرقص وفنون الراب التي أخذت تجتاح مدنا وبلدانا عربية توجد رغبة قوية للوصول إلى حالة يعبر فيها الافراد عن همومهم وتطلعاتهم وأوجاعهم دون خوف او تردد.