جاءت عملية القدس التي أطلق فيها شاب فلسطيني الرصاص على حافلة وسيارتين، تنقل مستوطنين إسرائيليين كصاعقة على رأس الاحتلال الذي خرج للتو من مذبحة غزة الأخيرة.
لا تتعلم إسرائيل، أبدا، وهي تظن أن بإمكانها أن تستفرد بالقدس، وتحمي اقتحامات الأقصى، وتستبيح غزة، وتقتل في الضفة الغربية، وفي الوقت ذاته تراهن على اجهزتها الأمنية، كونها قادرة على ضبط ردود الفعل، وهذه مراهنة ثبت دوما انها تخسر في أغلب المرات التي شهدناها.
حين يخرج السلاح في القدس بالذات، هذه المرة، فهذا يعني أن كل شيء يبدو متوقعا، لأن إسرائيل تسعى بكل الوسائل إلى تهدئة الأجواء في القدس وعدم انفجار الوضع الأمني فيها.
الشاب الذي نفذ العملية في القدس، ويحمل جوازا إسرائيليا،ـ مثل كثيرين من الفلسطينيين الذين ابتلاهم الاحتلال بالهوية الإسرائيلية منذ نشأة إسرائيل حتى يومنا هذا، يترك أثرا أكبر بكثير من إطلاق الرصاص، وإصابة مستوطنين، فهو يحض الآخرين على تتبع آثاره، وهو يطلق الرسالة التي تقول انه بعد كل هذه العقود من الاحتلال، ما يزال هناك من يقف في وجه إسرائيل.
لكن علينا هنا أن نتنبه إلى حقائق محددة، أولها أن إسرائيل لن تغير سياساتها، فقد تعرضت إلى عمليات كثيرة، لكنها واصلت التنكيل والقمع والانتقام، وثانيها ان موقع العملية قرب باب المغاربة في القدس يقول إن الاقتحامات الإسرائيلية قد تتعرض إلى إطلاق رصاص مجددا في أي توقيت، خصوصا، وأن السلاح متوفر في القدس، سرا، وثالثها أن إسرائيل سوف تستغل العملية لتشويه سمعة الفلسطينيين بكونهم يطلقون الرصاص على مدنيين، بالرغم من أن إسرائيل تقتل الأطفال في غزة وغيرها، ورابعها أن إسرائيل قد توظف العملية من أجل إجراءات جديدة ضد أهل القدس.
الخطر على إسرائيل والذي لا تعرف كيف تتعامل معه بشكل جذري، يتعلق بالديموغرافيا الفلسطينية في كل انحاء فلسطين، إذ إن إسرائيل برغم الترغيب والترهيب لم تستطع تحييد الفلسطينيين، ويستحيل ان تكون قادرة على اتخاذ إجراءات تتلخص بموجبها في ليلة واحدة من الفلسطينيين، في غزة والضفة والقدس وفلسطين المحتلة عام 1948.
بلغ عـدد الفلسطينيين حتى نهاية عام 2021 حوالي 14 مليون فلسطيني، نصفهم خارج فلسطين، فيما نحو 5 ملايين و300 ألف من الفلسطينيين يعيشون في الضفة الغربية بما فيها القدس، وقطاع غزة، منهم ثلاثة ملايين و200 ألف فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية والقدس، ونحو مليونين و100 ألف في قطاع غزة، ومليون و700 ألف فلسطيني يعيشون في فلسطين المحتلة عام 1948، وهذه “الكتلة البشرية” داخل فلسطين، ليست محايدة، حتى لو خفتت ردود فعلها في ظروف معينة، وقد شهدنا رد فعل المدن الفلسطينية المحتلة عام 1948 قبل عامين بعد مواجهات شهر رمضان داخل المسجد الأقصى، وما تلاها من ظروف.
هذه “الكتلة” كما أشرت ليست محايدة، وبرغم مساعي إسرائيل إلى تحييدها، تارة عبر اغراءات المواطنة الإسرائيلية، وتارة عبر الارتهان الاقتصادي وتحويل الناس إلى عمال في مشاريع الاستيطان، وتارة عبر الانتقام العسكري، والحصار كما يجري في غزة، مثلا، وتارة كما في امتياز العيش في القدس، وفقا للمفهوم الإسرائيلي، الذي يفترض خوف المقدسيين على وجودهم في المدينة، وبالتالي مهادنة الاحتلال، فإن الواقع يبرق دوما برسائل مغايرة لكل هذه المحاولات.
مصطلح ” الكتلة”يأتي من باب التوصيف الديموغرافي فقط، لكنهم أولا وأخيرا أهل فلسطين وأصحاب الأرض، الذين لا يمكن تحييدهم ولا تطويعهم، برغم كل نظريات الأمن الإسرائيلي.