شنت القوات الأميركية ضربة جوية محدودة داخل سورية على الحدود مع العراق في منطقة البوكمال، قتلت اثنين وعشرين عنصرا من مليشيات مدعومة من إيران. الضربة تأتي ردا على استهداف مطار أربيل، الذي يحوي تواجدا أميركيا، بدزينتين من الصواريخ من قبل مليشيات إيرانية لم تسفر عنها قتلى. وصفت الضربة الجوية الأميركية أنها كانت عن قصد وتخطيط ومحدودة لا تسعى للتصعيد، وإنما رسالة ردع لإيران أن الولايات المتحدة لن تقبل أو تتعايش مع استهداف حياة جنودها. الهجوم من مليشيات إيران والرد الأميركي عليها يأتي في إطار محاولات لرسم وربما اختبار قواعد اشتباك جديدة في ظل إدارة لم تتضح بعد حدود سياسات ردعها في الإقليم. إيران تريد التوسع والتمدد، تحاول تنفيذ انتقامها من مقتل سليماني بإخراج الولايات المتحدة من الإقليم لتترك فراغا ستكون إيران جاهزة لملئه. الولايات المتحدة بالمقابل لا تسعى إلا للتسكين لا التصعيد، وقد قصدت هذا الشكل من العمليات المحدودة وخارج حدود العراق حتى لا تعرض حكومة الكاظمي للانتقام وتهدد استقرار العراق.
كل هذا التفاعل تكتيكي عملياتي وليس استراتيجيا، فيما يبدو أن إدارة بايدن قد سلمت بحقيقة النفوذ الاستراتيجي الإيراني بالعراق والإقليم، وهي ليس بصدد مواجهته بل الاكتفاء بخلق قواعد اشتباك آمنة معه. يدعم هذا الاستنتاج حرص أميركا على توجيه الضربات للمليشيات الإيرانية خارج العراق مع أن كثيرا من المليشيات موجودة داخله، كما يدعمه مجرد الاكتفاء بالاشتباك وردع أذرع إيران مع أن رأس البلاء يكمن في طهران وما أذرعها إلا أدوات بيدها. الإدارة الأميركية تشتبك بشكل محدود جدا مع علمها أن ذلك لن يقوض أو يوقف تمدد إيران الإقليمي، وهي تستخدم الأداة العسكرية مع أن التمدد الإيراني في الإقليم قائم بأدوات أخرى على قدم وساق. ما فعلته إيران مع العراق ولبنان واليمن وسورية من تحويلها لعواصم تابعة لها لم يحدث باستخدام الأداة العسكرية بل مجموعة أدوات عقائدية تشيعية ومالية ومن ثم الدعم العسكري، ولهذا فالاكتفاء بالردع العسكري التكتيكي والمحدود مع إيران محكوم بالإخفاق، وهو استخدام أداة واحدة محدودة التأثير لمواجهة خطر إيران الكبير في الإقليم.
الضربة العسكرية الأميركية الأخيرة قالت الكثير لإيران، ملخصه أن هذه هي قواعد الرد والاشتباك الجديدة من قبل الإدارة الأميركية، ما يعني ضوءا أخضر لإيران للتمدد والتوسع طالما أنها لا تهدد حياة الأميركيين في المنطقة، وبغير ذلك فإيران حرة طليقة لتسقط العاصمة تلو الأخرى. هذا مؤسف ويعبر عن قصور في فهم خريطة الشرق الأوسط الجيواستراتيجية، فما لم يتم مواجهة طهران مباشرة وليس أذرعها، وبمجموعة من أدوات الردع وليس بالضرورة العسكرية، فإنها سوف تستمر بتقويض الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، ولن يمضي وقت طويل حتى تنتهي إيران من إحكام سطوتها الأمنية والشعبية على سورية، وسنرى قريبا حزب الله السوري، وبعد ذلك ستمضي طهران لاستهداف عواصم أخرى في الإقليم كما هددت سابقا.