اللامركزية في الأردن نموذج غامض متشابك ويستعصي على الدراسة والفهم. ما أن تحاول قراءة الملف أو البحث فيه حتى تتبدى لك عشرات المفاهيم والآراء والمسوغات المجتزأة وتستمع إلى مصفوفة الغايات والأهداف المتضاربة ويمطرك البعض بسيل من الفتاوى والمحاذير حول أسباب تفصيل نموذج أردني لها ودواعي استبعاد الصيغ الأخرى لهذا النظام الذي تطبقه الكثير من بلدان العالم بنجاح فتحاول استقصاء الانطباعات والتقييمات التي تقدم فينتابك شعور بالضياع وتتملكك الرغبة في الخروج من الموضوع وتناسي كل ما سمعت والعودة إلى أي ترتيبات سابقة على التجربة.
الأربعاء الماضي كان يوما حافلا بمناقشة موضوع اللامركزية والحكم المحلي فقد نظم المركز الوطني لحقوق الإنسان لقاء حواريا بمشاركة عدد من النواب وحضور وزير الإدارة المحلية ووزراء سابقين للداخلية والقطاع العام اضافة إلى خبراء عرب ومحليين في محاولة للإجابة على عشرات الأسئلة المطروحة حول اللامركزية قبيل مناقشة مشروع قانون للإدارة المحلية الجديد.
الملفت في لقاء الأربعاء حجم التباين الذي ظهر في آراء وانطباعات وتقييم الخبراء للتجربة الأردنية في اللامركزية وعدد الملاحظات التي أبداها المشاركون وفي مقدمتهم الوزير الذي طرح على الحضور عشرات من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابة قبل بدء التطبيق ووضع القانون.
الوزير الحالي للإدارة المحلية أبدى إعجابه بنجاح النموذج السوري وعبر عن صعوبات يواجهها القانون المقترح ووجود أسئلة تحتاج إلى إجابات بالرغم من الحوارات التي أدارتها الحكومة مع الجهات والمجالس والقوى الاجتماعية والإدارية ذات العلاقة. العقبات الدستورية والتنظيمية والبيروقراطية والاقتصادية والقيمية التي أثارها الوزير معوقات جدية يصعب التقدم تحو تطبيق فعال للحكم المحلي دون تذليلها.
المجتمعات المحلية لا تملك موارد كافية تمكنها من أن تعمل كوحدات إدارية خدمية ذات استقلالية كافية في مواردها وإنفاقها، كما أن من الصعب قيام المجالس المنتخبة في المحافظات بمهام الرقابة والمساءلة للمجالس التنفيذية دون تغيير في الدستور. وفي جميع الأحوال لا بد من أن تمتلك المجالس رؤى تنموية ومكنات قانونية تسمح لها بالتخطيط والتنفيذ والنهوض بالمجتمعات ليقال إنها تؤدي مهام تنموية. حتى اليوم لا أعتقد أن وزارة الإدارة المحلية تملك غطاء قانونيا لقراراتها فهي تمارس الإدارة والإشراف على مجالس لا تشير مهامها إلى أي علاقة لها بالوزارة الجديدة.
أزمة اللامركزية في الأردن أعمق مما تبدو وتطبيقها يصطدم بالعشرات من المشاكل التي يظهر في مقدمتها مركزية قرار الإدارة.
فمن غير المنطق أن تتحدث عن لامركزية السلطة أو تفويضها في مجتمع يمتاز بمركزية قراراته. في الأردن من الصعب أن تجد أحدا يعمل بلا توجيهات من الرؤساء لدرجة أن ديباجة المراسلات التي تستخدم في المراسلات الرسمية وغير الرسمية تبدأ بعبارة “بتوجيهات من…..”.
أما العقبة الثانية في وجه اللامركزية فتتمثل في غموض الفلسفة والغايات من اللامركزية فتارة يقال إنها جاءت لتوسيع دائرة المشاركة وأخرى لتقديم الخدمات وثالثة لتوزيع السلطة ورابعة لتحقيق التنمية والتكامل وخامسة لتفريغ النواب للأعمال التشريعية والرقابية، وفي كل الأحوال تبدو المجالس بلا صلاحيات حقيقية، ولا يعرف الأهالي الكثير عن الفلسفة والأهداف والأدوار كما يجري التعامل مع المجالس كأجسام غريبة عن الإدارة والبنى القائمة فعلا كالبلديات والمجالس التي يديرها الحكام الإداريون.
ما لم يتم توضيح فلسفة وغايات اللامركزية وما لم يجرِ وضعها في إطار تشريعي واضح وتصاغ لها أهداف دقيقة وصلاحيات واسعة يعرفها الناس ويعترفون بها، فإن التجربة ستبقى تراوح مكانها وتسهم في خلق المزيد من الحيرة والضياع وإنتاج الأدوار التي لا معنى ولا قيمة لها سوى حرمان المجتمع من التقدم بصدق وجدية نحو أهدافه وغاياته.