مع مطلع هذا العام، يحتفل الأردن قيادة وحكومة وشعبا، بدخول الدولة مئويتها الثانية ونجاحها في الحفاظ على استقرار نظامها السياسي في محيط مضطرب ليصبح أحد أعرق الأنظمة السياسية العربية وأقدم الكيانات العربية الحديثة شرقي البحر المتوسط. الاحتفالات الأردنية بهذه المناسبة تأتي وسط أزمة صحية ومخاوف عالمية يصعب أن تجد لها مثيلا في التاريخ الحديث.
الاحتفالات التي ينبغي أن تقوم بها المؤسسات والهيئات والتشكيلات الأهلية تفتقر الى خطاب توجيهي ومرتكزات تساعد البلاد والناس على توظيف هذه المناسبة في المراجعة الوطنية التي نأمل بأن ترقى الى مستوى تمرين وطني شامل في بناء وتعزيز الهوية وتعميق الحس بالانتماء وإطلاق طاقات الجماعات والأفراد نحو أهداف بناء وتعزيز دور ومكانة الأردن في الإقليم والعالم.
لا أعرف الكثير عن المرتكزات ونوع الرسالة ولا المحتوى الذي ينوي العقل الثقافي الإعلامي للدولة أن ينتجه وينقله لأبناء المجتمع الأردني حول مئوية الدولة ومرتكزات هويتها وسبل تعاطيها مع أزمات الواقع والمسيرة التي ستتخذها نحو المستقبل. الخطاب الذي صاغه الشعراء ولحنه المنتجون لأغاني المناسبات مفيد لرفع المعنويات والتسامي على الواقع، فهو مشبع بالزهو وقادر على توليد مشاعر تنتشلك لبرهة من الواقع، لكنه غير قادر على إطفاء المخاوف ولا تبديد ما يولده الضنك وتثيره أرقام الفقر والبطالة والمديونية من مشاعر. بالرغم من كل ذلك، ما يزال المواطن الأردني مهيأ للنهوض والمشاركة ومغادرة مربع اليأس إذا ما اطلع على خطاب واقعي مقنع ونهج عملي شفاف، فهناك مساحة واسعة للأمل واستعداد كبير للعمل على تجاوز المعوقات والصعاب والاحتفال بنهضة جديدة تستند الى أحلام وطنية وقيم الإيمان بكرامة وحق المواطن في المشاركة وتتخذ خطوات عملية شفافة للخلاص من أسباب التعثر وتجنيب المجتمع وبنيته الممارسات المفضية الى التأزيم.
في الحديث مع العشرات من إخوتنا وأصدقائنا العاملين في حقل الثقافة والإعلام، هناك اجتهادات ورغبات صادقة لدى الكثيرين منهم للاحتفال بهذه المناسبة الوطنية المهمة، لكن العديد من الإخوة يجدون صعوبة في وضع تفاصيل أنشطتهم وجهودهم في أطر توحدها وتوجهها نحو أهداف مشتركة. في الصحافة وخارجها، هناك حاجة كبيرة وملحة للإلمام بتفاصيل الرسائل والصور والخطاب الذي تود الدولة أن تقوله لأبنائها والعالم عن هذه الرحلة التي امتدت على مدار ما يزيد على 36450 يوما. كما أن هناك ظمأ حقيقيا لمعرفة مواقفنا وتموضعنا ومسيرتنا وتفاعلنا مع ما يدور حولنا من أحداث وما تنوي الدولة القيام به لمعالجة الملفات والمشكلات والقضايا المزمنة كالمديونية والفقر والبطالة والحياة السياسية والحكومات البرلمانية ومستوى الخدمات وإدارة الموارد الطبيعية ومحاسبة الفاسدين وغيرها. لم أجد في النصوص والمواد التي قام على إنتاجها وعرضها الإعلاميون ما يختلف عما يجري في عيد الاستقلال ويوم الجيش وبقية المناسبات الوطنية. أمس وأنا أطالع أحد بواكير الرسائل التي جرى إعدادها، وجدتني أسترسل في تأمل تاريخ هذه الدولة ورحلتها وأستسلم للتداعي الحر لمئات الصور التي رسمها الشعراء والساسة والبيروقراطيون والجنود والإنجازات الكبرى التي صنعها البناة والرواد ممن مضى بعضهم دون إشارة أو ذكر وبقي بعضهم الآخر بعيدا عن الأضواء والمنابر واهتمامات الكتاب والمؤرخين.
في المئوية الثانية، نحتاج لأن نقول شيئا آخر غير الذي قلناه في كل الاحتفالات السنوية. كنت أتمنى أن أرى مراجعة شاملة وكمية ومعنوية للنجاحات الأردنية في خمسين مسارا من مسارات حياتنا ومهننا ونقدم أسماء كل الذين كرموا في ميدان يستحدث لهذه الغاية تحت مسمى “بناة المجد أو صناع المستقبل”. ففي بلادنا يحتاج الناس اليوم الى الدمج أكثر من الإقصاء وإلى التجميع أكثر من الملاحقة والتشتيت وإلى الرد على الاتهامات بالحقائق لا بمنع الحديث أو منع النشر أو الاعتقال. من المهم الاحتفال بالقادة العسكريين والمدنيين الذين تركوا مواقعهم بشرف ونظافة لا أن تثار الزوابع حول البعض فيختلط الحابل بالنابل، ومن المهم أيضا أن نحتضن النماذج النظيفة التي تدخل العمل العام بحب واحترام لا بشيطنة وتجريم.