ما لم نتمكن من حسم قضية المواطنة وفك “ألغازها” التي أشغلتنا على مدى العقود الماضية ، فإن سؤال الديمغرافيا والجغرافيا سيظل يطاردنا كلما فتحنا “ملف” التحديث او الإصلاح السياسي، هذه الحقيقة يفترض ان نعترف بها قبل أن نتلاوم على حصص المحافظات والدوائر أو الأحزاب، في مشروع قانون الانتخاب المنتظر.
أعرف أن البعض سيتحفظ على الفكرة، بحجة أن المواطنة محسومة دستورياً، وأن المواطن معرّف قانونياً، او بذريعة أن الأردنيين لا يعانون في الأصل من “العنصرية”، وانهم انصهروا اجتماعياً بروابط الدم والنسب مما أسفر عن توحيد هويتهم، هذا صحيح، لكن المشكلة تكمن في “مزادات” السياسة التي استقوت على المواطنة وعبثت بها، تماماً كما عبثت بالمجتمع وزرعت فيه فزاعات الهويات المغشوشة، ثم كسّرت وسائطه الاجتماعية الضامنة لانسجامه، وافقدته بالتالي القدرة على “لم الشمل” في إطار وطني يستند الى الإحساس بالمواطنة العابرة لكل الأعراق والأديان والمنابت الجغرافية.
بصراحة أكثر، لا يمكن ان يتحقق الإصلاح السياسي الذي يفكر به الأردنيون ويطمحون اليه، في ظل تعميم منطق “المحاصصات” وتوزيع الغنائم الوطنية، لا أقصد المحاصصات السياسية التي قد يفرزها قانون الانتخاب مثلاً، وانما المحاصصات على الوظائف والموارد و”الحظوات” الرسمية ومقاعد الجامعات، وغيرها من أصناف “القسمة” التي انتجت مزيداً من الإحساس بالقهر والمظلومية وغياب العدالة. ارتدادات غياب ثقافة المواطنة غالباً ما تفرز أسوأ ما في المجتمع، ولك أن تتصور بأن المجتمعات التي تفتقد هذه الثقافة قد تأكل نفسها، او تنتقم من نفسها ، كما ان الدولة التي لا تعوّل على ترسيخ هذه الثقافة قانونيا واخلاقياً تتخلى طوعاً عن هيبتها وثقة أبنائها بها. لا تستقيم المواطنة على سكتها الصحيحة الا اذا انتصبت موازين العدالة، فالدولة العادلة هي دولة المواطنة، وفيها لا يصح ان نسأل : من المواطن الأصيل والآخر البديل، أو ان نظل نردد أسئلة سخيفة مثل “من أنتم؟”، او نتجادل حول هويات فرعية وملاذات “قبلية” ونضعها ندّاً للدولة، كل هذه الموبقات السياسية والاجتماعية التي أعادتنا للوراء كانت نتيجة طبيعية لوصفة “المحاصصات” التي صرفناها من صيدلية التشريعيات والمقررات “المسلوقة”، ودفعنا ثمنها من عافية مجتمعنا وبلدنا أيضاً.
لا يجوز ابداً ان نختصر بلدنا في الديمغرافيا والجغرافيا فقط، ولا ان نفصّل على مقاساتها مشاريع الإصلاح والتحديث، بما تتضمنه من تشريعات وقرارات، الأردنيون يدركون تماماً ان الأردن التاريخ والمشروع والانسان أكبر من هذه الثنائية، وان دماء أجدادهم وآبائهم التي خضبت تراب فلسطين أغلى من ان تدرج في المزادات “السياسية” المزدحمة بأصوات البائعين والمشترين، الأردنيون يعرفون ايضاً ان المواطن النظيف “مسؤول” نظيف ووطني بالضرورة، دون ان يضطر لتقديم شهادة ميلاده او التعريف بالأصل الذي ينتسب اليه. إذا سألتني: لماذا استقال أغلبية الأردنيين من المشاركة في العمل العام، ومن الاصطفاف في الطوابير أما صناديق “الانتخاب”، ولماذا يشهرون عدم ثقتهم بمؤسساتهم ويحتفلون عندما تحل برلماناتهم، ولماذا يتلذذون بالشكوى والتذمر والاحساس بالإحباط، ولا يرون في مجتمعهم الا صور الفشل رغم ما يحققه أبناؤهم من ابداعات وانجازات مشرقة؟ سأجيبك دون تردد، انهم يبحثون عن “المواطنة” الحقة فهي كفيلة بأن تنزع من صدورهم كل هذا “السواد”.