العدالة قيمة يحرص عليها الناس ويتمنون سيادتها في مجتمعهم. تحت مظلة العدالة يستقر المجتمع وتعم الطمأنينة ويختفي التوتر ويشعر الافراد بالأمن ويحترم الجميع القانون. في مجتمع العدالة لا يوجد الضجيج ولا التذمر الناتج عن الظلم وضياع الحقوق ولا يحتاج الناس للاحتجاجات والشكوى فهم متيقنون من سلامة المبادئ وكفاءة النظام ووضوح التشريعات ونزاهة التطبيق وحرية والتزام الاعلام ومعرفة الافراد والجماعات بحقوقهم واستعدادهم الدائم للدفاع عنها.
في مثل هذه الحالة يكون المجتمع منتجا وقويا منيعا يصعب التحايل على إرادته او اختطافها. حيثما تتوفر العدالة يقبل الجميع على العمل ويؤدون واجباتهم ويتطوعون لجعل مجتمعهم اكثر ازدهارا وتكافلا وجمالا. ومن غير العدالة يصعب الحديث عن الأمن والاستقرار فالناس يتأهبون لحماية انفسهم والدفاع عن حقوقهم وحماية مصالحهم حيت تتآكل الثقة بالتشريعات والقائمين على تنفيذها ويخاف الناس على انفسهم وممتلكاتهم ويشكلون انظمة خاصة للحماية تنأى عن الدولة وتقوض سلطتها فتتكاثر الشلل والمجموعات ويسود الولاء للافراد المتنفذين والمتنمرين باعتبارهم ملاذا يمكن اللجوء إليه للحماية واستعادة الحقوق.
لكي تتحقق العدالة لا بد أن يؤمن الناس بقيمها ويسلمون بسلطانها فيبنى المجتمع على مبادئها وقيمها وتصاغ التشريعات لتحقيقها ويختار لتنفيذها اشخاص يتحلون بروحها ويملكون القدرة والشجاعة والاستقلالية الضرورية لتطبيقها وإدامتها بعيدا عن اي انحيازات او ضغوط.
قبل ايام وبمناسبة مرور 21 عاما على رحيل القاضي موسى الساكت لبى العشرات من السياسيين وأهل الفكر والقانون والادارة الدعوة التي وجهت لهم من قبل القائمين على المركز الثقافي الذي حمل اسمه في مدينة السلط حيث عقدت ندوة فكرية حول “تعزيز قيم النزاهة في المجتمع الاردني”. في الندوة التي رعى انعقادها رئيس مجلس الاعيان وأدارها حفيد القاضي، تحدث عدد من المشاركين عن اهمية النزاهة وضرورة تحققها لتمتين البناء وتعزيز الانتماء ورفع الروح المعنوية والحد من الشعور بالظلم وضعف مستوى الاداء, ووصفوا مظاهر غياب النزاهة وأثر ذلك على المجتمع وموارده ومخرجاته ومكانته، بعدها جرى نقاش ثري حول مفاهيم النزاهة وأهمية توفرها وادوارها في تحقيق النهضة والتغلب على ما تعانيه البلاد في الادارة والسياسة والاقتصاد والثقة بين المواطن والدولة.
في الحوار الذي شارك فيه ثلة من المحامين والاداريين والاعلاميين، استذكروا الماضي مستحضرين النماذح النزيهة في القضاء والادارة والسياسة فتحدثوا عن سيرة القاضي موسى الساكت الذي ارتبطت باسمه صورة القضاء النزيه المستقل وعلي مسمار ومحمد عودة القرعان ورجالات الأفواج الاولى من خريجي مدرسة السلط الثانوية ممن اشاعوا العدل في البلاد وبعثوا الطمأنينة في النفوس وحرصوا على تحقيق النهضة للوطن.
اليوم وكلما جري الحديث عن النزاهة يحتدم النقاش حول اذا ما كان مجتمعنا يعيش حالة النزاهة او انه فقد روح العدالة التي يشعر بوجودها الجميع ان كرامتهم مصانة وحقوقهم محفوظة وفرصهم متكافئة فلا تعدي ولا ظلم او تجاوز او افتراء. وسط هذا الجدل يستخلص الجميع ان لدينا من الادبيات التي تتحدث عن العدل والانصاف والمساواة وتكافؤ الفرص الكثير في حين ان مستوى العدالة الملموسة متواضع.
البحث في الدين والأشعار والاخلاق والدستور والقانون يشعرك بأنك تعيش في المدينة الفاضلة فقد طورت التشريعات وبنيت منظومة النزاهة التي استدعت صياغة استراتيجيات وبناء مؤسسات وعقد العشرات من المؤتمرات والندوات التي تتحدث عن الانجازات.
خلافا لما تصفه التشريعات وتتحدث عنه السياسات والبرامج وتقارير الدوائر والمؤسسات الرقابية يشعر الناس بالكثير من الغبن والظلم والتعدي على حقوقهم وتدفع بالكثير منهم للشكوى والتذمر وتبني اتجاهات ومواقف سلبية من المؤسسات والاجهزة القائمة على ادارة الشؤون العامة والخدمات.
في بلادنا لا يكاد يمر يوم دون ان تلمح في الفضاء العام عددا من الاعتصامات والتظاهرات المطلبية اضافة الى الارقام المذهلة للشكاوى والاحتجاجات التي يقوم بها المستخدمون والمتعطلون والمتقاعدون والنساء والمزارعون والصناعيون والسواقون والخريجون. في الإعلام الالكتروني والتواصل الاجتماعي من الصعب ان ينجو احد من تهم الفساد بعضها بسند وأدلة وبعضها الآخر نتاج لحالة الفوضى التي أوجدتها التجاوزات وغياب المساءلة وانعدام محاسبة الفاسدين.