الثلاثاء 2024-11-26 01:59 ص

حارة الزمن الجميل

03:19 م
خلال فترة الحظر هذه شعرت ولأول مرّة أنني أسكن حيّا. كان مجرد شارع تمرّ به السيارات مخلفة ضجيجا صاخبا من الصباح حتى وقت متأخر من الليل، تلوثٌ سمعيٌ رهيبٌ مع تلوث الجو. وراحت ابنتي التي يطل شباكها على مشتل مجاور وسور من الأشجار تسمع باندهاش زقزقة العصافير طول المساء وهي لم تكن تسمعها أبدا.


لأول مرة انتبه لوجود “جيران” في عمارات مجاورة يظهرون على الرصيف نتقاطع في الطريق إلى الدكان القريب ونتبادل السلام، ويمكن ملاحظة أن النساء أكثر قابلية للتعارف ويستثمرن وقت الانتظار أمام المحل لتبادل الحديث. وكانت أقصى مسافة أقطعها داخل “الحي” هي من باب البيت إلى باب السيارة حتى بنية الذهاب للمدينة الرياضية لممارسة رياضة المشي. تغير الأمر وأصبح برنامجنا اليومي يشمل المشي في الشوارع المحيطة بالبيت ويصدف أن نمر أمام عمارة فتتذكر زوجتي أن معارف يسكنونها فندُقُ عليهم واحتراما للتباعد نكتفي باللقاء والثرثرة على الرصيف. وأتعجب في داخلي أننا كنا نلتقي في أماكن ومناسبات شتى ولم يصدف إطلاقا أن التقينا في منطقة سكننا. فجأة نكتشف أننا ننتمي لحي أو لما كان – أيام الزمن الجميل- يطلق عليه “الحارة”

أصبح الذهاب إلى الدكان والصيدلية ومحل الخضرة القريب للتسوق متعة حيث تلج المحل كجار وليس كزبون طارئ بل إن إحساسا بالعقوق يساورك عن الفترة الماضية حين كان المول البعيد وجهتك الثابتة للتسوق ونادرا ما تقف هنا مستعجلا لأخذ غرض أو غرضين أوصت بهما المدام وأنت في الطريق إلى البيت. أقول الحقيقة إنني أحب لو يطول أمد الحظر لأتشرب هذا الايقاع للحياة والإحساس بالانتماء إلى حي، حتى لا أقول “حارة” وهي تكوين اجتماعي ديمغرافي اختفى تقريبا حتى في البلدات.

إنما الزوبعة العاتية التي عصفت بأركان الذاكرة هذه الأيام فقد أطلقها محمد داوودية في مقالاته “ذكريات رمضان” وهو يتحدث عن المفرق زمان وحارة المعانية المجاورة لحارتنا وكانت في أول وعينا كأطفال المكان الذي يأتي منه جمهرة غفيرة من الأولاد الشرسين نتراجد وإياهم بالحجارة حتى حلول الظلام في البر الممتد أمامنا حتى الكامب الذي أنشأه الإنجليز لمحطة خط البترول من العراق إلى حيفا. كنا أصغر ببضع سنوات من جيل داوودية وكنا نراهم كما تحدث عنهم بالفعل شخصيات أسطورية. وليس غير قلم محمد داوودية الفذ وذاكرته الخارقة يمكن أن تؤسطر الأشخاص والأحداث الواقعية الصغيرة كما لو أنها في عرض هوليودي من سينما الستينيات. ولحسن الحظ أن ذاكرة خارقة أخرى عاونت داوودية في الضبط والتدقيق والتوسع هي ذاكرة عبد المهدي التميمي الذي زار والدتي في المفرق العام الماضي قبل وفاتها بأسابيع واحتل كامل وقت الجلسة ليذاكر معها عن مفرق الستينيات، وهي كانت تتمتع عن نيف وتسعين عاما بذاكرة ممتازة، لكن الجلطة الدماغية كانت تمنعها من التعبير بالكلام عن انفعالها الشديد، وهو يستعيد لها أسماء الأشخاص والعائلات والقصص والطرائف لتلك الحقبة.

“الحارة” هي التجسيد المسرحي المختصر لذاكرة الوطن كما هو في الحياة والوجدان وليس في الخطاب السياسي. بل إن نجيب محفوظ في “أولاد حارتنا” استخدم الحارة مسرحا كونيا لرواية عن الله والكون والبشر والأنبياء والمجتمع. ونجح مسلسل “باب الحارة” السوري في جذب المشاهدين في 7 مواسم رغم أنه زور التاريخ وشوه الواقع كثيرا. إنما لا أستطيع منع نفسي من التفكير في باب حارة أردني مستوحى من مذكرات داوودية ويمكن أن يكون هو نفسه معد السيناريو ولا حاجة لافتعال دراما كاذبة. مروية داوودية البيوغرافية الأردنية ترتقي إلى واقعية أسطورية مذهلة – وفق ما يوصف به أدب غابرييل غارشيا ماركيز- تحتاج فقط إلى نقل إلى الشاشة. وهو معروف وخدمة للفن وللأردن يستطيع أن يصنعه مخرج شاطر.
gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة