لا يكفي أن ينزل المطر، الأهم أن يجد “التربة” المناسبة، ثم ما يلزم من سدود وقنوات وزرّاع للاستفادة منه الى أقصى حد ممكن، والّا فإن النتيجة معروفة. هكذا -بالضبط- تبدو العلاقة بين الإصلاح السياسي المنتظر (التحديث إن شئت) وبين حالة مجتمعنا الذي لا نعرف بعد، هل هو جاهز لاستقبال هذا الوافد الجديد أم ما يزال يشك في جديته و”يمتنع” عن الثقة به واستقباله؟
لا تسأل هنا عن الأسباب التي تدفع المجتمع للاستغراق في مثل هذه الحالة، او تفقده القدرة على التعامل – بإيجابية- مع ما يصدر اليه من وعود بإصلاحات مقبلة، فهي متاحة وموجودة لمن أراد ان يعرف. المهم هو الاعتراف بهذه الحالة ثم فهمها بنية تصحيحها، لا مجرد تزيينها، لكي يستعيد المجتمع ما يلزمه من عافية.
صحيح ان مجتمعنا لا يثق بمؤسساتنا السياسية والفاعلين فيها، لكن الأخطر من ذلك هو أنه لا يثق بنفسه، هذا ليس مجرد انطباع، وانما واقع عكسته دراسات واستطلاعات رأي عديدة، الأردنيون – للأسف- لا يثقون ببعضهم، وصور عدم الثقة تلاحقنا يومياً، داخل الأسرة وفي الشارع والعمل وفي تعاملنا مع الآخرين عبر وسائل الخدمة العامة ايضاً، والسؤال: كيف نستطيع، اذاً، ان ننجح بتشكيل “أحزاب” وقوائم انتخابية في ظل هذه الحالة؟ طبعاً تتوالد أسئلة كثير مشابهة، لكنها تصب في نقطة واحدة، هي “جاهزية” المجتمع للانتقال من مرحلة الإحساس بالعجز، وعدم الرغبة بالمشاركة بالعمل العام، الى مرحلة “المواطنة” بما تقتضيه من واجبات واستحقاقات.
الإجابة تحتاج الى نقاش عميق، يفترض ان يبدأ بتشخيص حالة المجتمع، وهي للأسف صعبة وصادمة، خذ مثلاً: لدينا حسب آخر الإحصائيات 825 ألف أردني سينضمون الى فئة ما دون خط الفقر (يعيشون بأقل من 100 دينار)، وبالتالي ستتشكل طبقة من نحو مليوني أردني من هذه الفئة، يمكن ايضاً ان نستشهد بأرقام البطالة وأعداد المتعثرين مالياً، وأوجه الحالة الاقتصادية، لندرك الواقع الذي يدفع الأردنيين لاختيار أولوية الإصلاح الاقتصادي لا السياسي، كمخرج ” متخيل” او ربما فاعل، من هذه الحالة. خذ ثانياً: لدينا نحو مليوني شخص يعانون من الاضطرابات النفسية (قبل كورونا)، ومليون شخص من أصحاب الاحتياجات الخاصة، ولدينا أرقام كبيرة عن أردنيين يعانون من السكري والسرطان والامراض المزمنة (الصحة الجسدية). استدعاء الفقر والمرض، كمثالين، ضروريين لفهم حالة المجتمع وتفسير سلوكياته، واذا أضفنا اليهما تعطل “ماكينة” السياسة لسنوات طويلة، ومحاولات تكسير “الوسائط” السياسية في صورها الحزبية والنقابية ومؤسسات المجتمع المدني، والعبث “بالوسائط الاجتماعية” بما تمثله من “رمزيات” للتعاون والتكافل، ثم ما جرى على صعيد منظومات القيم والتعليم والصحة والأخلاق، عندها يمكن ان نفهم ما طرأ على مجتمعنا من تحولات، ثم ما انتهى اليه من حالة ” فقدان التوازن ” وقلة الحيلة، والانسحاب من موقع الرديف لمؤسسات الدولة الى موقع “اللامبال” او غير الواثق منها ايضاً.
ما أريد أن اصل اليه، هو ان عدم ثقة المجتمع بنفسه (والأردنيين فيما بينهم)، وما ترتب على ذلك من انتشار الكراهية والخوف والعجز وغيرها من الصور السلبية بعين افراده، خاصة الشباب الذين يشكلون “خزّانه” الاستراتيجي، اصبح يشكل تهديداً خطيراً يفترض ان نواجهه بحكمة وإرادة، لأن عكس ذلك سيفوت علينا أي فرصة للخروج من ازماتنا، او للتفكير بتحديث وتطوير مؤسساتنا السياسية والاقتصادية والتعليمية…الخ، والأهم انه سيولد بيننا “قنابل” اجتماعية قابلة للانفجار تحت أي ضغط، وجزراً معزولة داخل “مجتمع” نتصور انه متجانس لكنه -للأسف- جاهز في أي لحظة للصدام والتشظي والانقسام.