كل حريق كبير يبدأ بحريق صغير، واذا كانت الازمة التي نعبرها بدأت بمطالبات مشروعة من جانب قطاع النقل، لتخفيض اسعار الوقود، الا انها من ليلة الجمعة دخلت مرحلة جديدة.
تشتد الاحداث في مواقع مختلفة، وتتزايد حدتها تدريجيا، وبعد ان كنا في اطار مطالبات مقبولة، بدأنا نواجه أمرين، اولهما البطء في مرحلة معينة، ازاء معالجة هذه الازمة، لاعتبارات مختلفة، وهو بطء انتهى لحظة الاعلان عن حزمة الدعم المالي لقطاع النقل، وثانيهما، اي الدخول في مرحلة من التخريب والتكسير، واغلاق الطرقات ومنع وصول شاحنات الادوية والقمح والوقود وغيرها من ميناء العقبة، وغير ذلك من افعال رأيناها، ويعرفها الكل دون استثناء.
تحميل المسؤوليات اليوم بهذه الطريقة ليس حلا، كل طرف يحمل المسؤولية لطرف ثان، وهذا التحميل لا يخفي ما هو اهم، اي اننا امام خطر فتنة كبرى، خصوصا، بعد استشهاد ضابط من الأمن العام، لم يكن يطلق الرصاص، لا هو ولا رفاقه، بل اننا نعرف تاريخيا ان رجال الامن يحمون المسيرات، والضابط الشهيد الذي تم غدره، كان يقوم بازالة الاطر المشتعلة من الشارع، كي يفتح الطريق للناس، ولم يكن يصوب رصاصه على احد، فيتم غدره وتيتيم اطفاله.
الازمة بحاجة الى عقلاء، لاطفاء النار، وليس لاشعالها، وهذا ليس وقت تسجيل مواقف، والذي خرج ليقول ” يخوفوننا من سيناريو سوريا، فلنصبح مثل سوريا” شخص يتسم بالخفة السياسية، يقامر بدم الناس، وعلى حساب بيوت الاردنيين، خصوصا، ان سوريا صمدت 11 عاما، في حرب شردت الملايين، وقتلت مئات الالاف، ونحن في بلد لا يحتمل فوضى على الطريقة السورية لمدة يومين، في ظل قلة موارده، وتركيبته الاجتماعية المعقدة، و لا يحتمل انقطاع الماء، ولا الكهرباء ولا حبة الدواء ليوم واحد، فأين هو عقل الذي يستدعي سيناريو سوريا الى الاردن، واين هو ضميره، او حتى ادراكه الوطني، او خشيته من رب العالمين، وسط هكذا ظرف يحيط بنا.
الملك يذهب الى عزاء الدكتور الشهيد عبدالرزاق الدلابيح، ابن قبيلة بني حسن، وكلامه هناك واضح، لان التوقيت بحاجة الى رسائل محددة، خصوصا، بعد ان وصلنا مرحلة رفع السلاح على ابنائنا، وحين يشدد على أنه سيتم التعامل بحزم مع كل من يرفع السلاح في وجه الدولة ويعتدي على الممتلكات العامة وحقوق المواطنين، وأن الاعتداءات وأعمال التخريب مساس خطير بأمن الوطن وأنه لن يتم السماح بذلك، وأنه لن يقبل التطاول أو الاعتداء على أبناء الاجهزة الأمنية الساهرين على أمن الوطن والمواطنين، فهو يوصل رسالة خطيرة تتعلق بالتوقيت، اي وجود من هو مستعد لقتل ابناء البلد، بذريعة المصاعب الاقتصادية، وهذا امر لا يفعله الاردنيون تاريخيا.
لا يحق لاحد بذريعة مصاعب العيش ان يقتل غيره، ويسفك الدم، مما يجعلنا نسأل عن الفاعل المحتمل الذي قد يكون من تجار المخدرات الذين يريدون اشعال الفتنة، انتقاما من ضرب شبكاتهم، او قد يكون شخصاً متضرراً، او شخصاً يريد جر البلد الى حرب اهلية دموية، لان لكل واحد فينا عائلته، وقبيلته، التي لن تسكت اذا تضرر واحد منها، وهذا يعني ان القصة انحرفت من مدارها كتعبير عن المظلومية والفقر والجوع، الى مدارات فيها من يريد توظيف الازمة لحساباته الاجرامية، او الاجتماعية، او السياسية، وهذا جانب حساس في هذه القصة.
الملك ذاته يشير الى المصاعب الاقتصادية، ولا احد ينكرها في البلد، فالغلاء وسعر الوقود، وكلف الحياة تؤثر على الجميع، لكن خلط الاوراق، خطير جدا، فالقتل والتخريب، يحرف القضية العادلة عن مسارها، ويختطف المشروعية، نحو مسارات دموية، لا احد يعرف مآلاتها النهائية، في بلد محاط بالحرائق في كل جواره، وتريد اسرائيل خلخلته من اجل سيناريوهات المسجد الاقصى، وتريد قوى اقليمية رأسه لحساباتها، ليس هنا محل ذكرها.
هذا ليس تخويفا ساذجا للناس، ولا استثمارا في المخاوف، لكنه واقع، يوجب علينا ان نعرف الى اين تأخذنا ردود الفعل، في البلد الذي يأتمننا على نفسه، وهو ليس مجرد مكان للعيش او الكسب او النوم، او قضاء الاجازات، وليس مجرد قاعة ترانزيت في مطار شرق اوسطي.
اسوأ في ما في هذه الازمة ان هناك من يوظفها لاعتباراته، ولعلك تسأل عن الفرق بين النقد، وبين التحريض، وبين اطفاء النار، واشعالها، وكل من يرمي حطبا في هذا الموقد، لا يخاف الله، لان معالجة اشكالاتنا الاقتصادية والاجتماعية لا تكون بحرق كل البلد، وجره الى الهاوية.
نحن هنا لا نتذاكى على احد، والتهدئة مطلوبة من الكل، ونحن هنا لا نجرم كل صاحب مطالب، فهذا ليس من حقنا، لكننا نطالب بوقفة مع النفس، من جانب الجميع، والتهدئة، والتقاط الانفاس، واعادة مراجعة كل المرحلة الماضية، وما جرى فيها، حتى لا ننزلق لاسمح الله الى فتنة، لن ينفع معها التراشق، وتبادل الاتهامات، حول من هو المسؤول، وغير المسؤول، ومن هو الظالم والمظلوم، لاننا سنكون لحظتها وسط فتنة تحرق الاخضر واليابس، ولا ينفع لحظتها الندم.
اهالي معان الكرام، والبادية الجنوبية وكل مناطقنا، ابرياء من دم الشهيد، ولا احد يقبل بمس سمعتهم، وتاريخهم، وارثهم، وكل هذا مردود، لان القاتل الذي ارتكب جريمة القتل، يمثل نفسه، ولهذا على الاصوات التي تحرض على المدينة والبادية، ان تصمت، وتحترم نفسها، وان نفرق بين اصحاب المطالب المشروعة، وبين من يخربون ويحرقون ويقتلون، كما ان الكل يدرك ان هناك ازمة اقتصادية، تعصف بكل بيوت الاردنيين، لكن هذا لا يعني منح مشروعية للقتل والحرق والتخريب،وجر البلد لفوضى لها بداية وليس لها نهاية، وهي فوضى لن يسلم منها احد.
تبادل الاتهامات اليوم، جدل يعبر عن لحظة سيئة في تاريخنا، لان الاصل وقف الاتهامات المتبادلة، وان ننتبه الى اين نذهب جميعا، ومن سيدفع الكلفة حقا، ومن يحتمل الكلفة اصلا، ولا نختلف مع كثيرين حول وجود اخفاقات سياسية، في ادارة المشهد المحلي، لكن هذه الاخفاقات لا تمنح الرخصة لاي واحد فينا للذهاب بعيدا واستباحة كل شيء في هذا البلد.
ان الشك يهدم الشعوب والدول، وعلينا دون وعظ او ارشاد، ان نتوقف عن الشك، لمجرد المعاندة والمناكفة والتكذيب، وان نقرأ الازمة بطريقة اعمق، وان نعطي كل طرف حقه، فلا نتطاول على الفقراء واصحاب الحقوق، ولا نحول الظرف الى مناسبة للنفاق والتطبيل، فليس هذا ما يحتاجه الاردن الان وكل ما يحتاجه ان نفتح اعيننا على هذا المركب بكل ما فيه، والى اين نذهب به، وسط هذه الظروف الصعبة داخليا، والمعقدة في الاقليم والعالم.
الذي يقول لك بكل سذاجة ” اذا ما خربت ما بتعمر ” لم يعش نكبات الاخرين، ولو عاشها لادرك ان هذا الكلام سطحي جدا، الا اذا اعتبر ان انهيار البلد، ودب الفوضى فيه، وسفك الدماء، لا سمح الله، نوع من انواع الاعمار على يده ويد كل غاضب، لا يتحكم في غضبه، لا سمح الله، نوع من انواع الاعمار على يده ويد كل غاضب دون عقل، لا يتحكم في غضبه ايها السادة.
هذا البلد، ليس لشخص، او لمجموعة، هذا البلد لكل مواطنيه، وهذا يعني ان حاضره ومستقبله يرتبط برأي الكل، لا برأي من يظن انه قادر وحيدا على اشعال النار في كل غرفه.