لا ألوم آلاف الشباب والصبايا الذين ازدحمت بهم حفلات الغناء، وشيعوا “نجومهم” بالهتاف والتصفيق، هؤلاء إفراز لمجتمعنا الذي تعطلت فيه “السياسة”، وعجزت عن إنتاج ما يلزم من نخب لإلهامهم وحشدهم في إطارات نافعة، لم يجدوا أمامهم سوى حزب “الطرب”، هذا الذي أصبح أكبر حزب في بلادنا، فانخرطوا فيه ليخرجوا من فراغهم، ومن يأسهم أيضا.
اللوم يقع على الحكومة التي أغمضت عيونها عن التجاوزات التي جرت أثناء هذه المهرجانات، فأوامر الدفاع – حد علمي- يجب أن تطبق على الجميع، ولا يوجد بالتالي أي مبرر لاستثناء حزب “الطرب” من غراماتها، وما تفرضه من شروط والتزامات واجبة على الجميع.
أعرف أنه لا يوجد لدى الحكومة أي رد مقنع على ما حدث، ابتداء من مهرجان جرش إلى حملات “الهوى جنوبي” في العقبة، لكن من المفارقات الصادمة أن صدور آخر بلاغ (رقمه 46) الذي منع وجود أكثر من 10 أشخاص على طاولة واحدة في المطاعم، تزامن مع إعلانات لإقامة حفلات فنية، ثم أقيمت فعلا دون أن تلتزم بالاحترازات الوقائية، الأغرب من ذلك أن فرق التفتيش داهمت في ذات التوقيت المحلات التجارية، ثم ضبطت المخالفة منها، وفرضت عليها غرامات بآلاف الدنانير. جرى ذلك كله وسط مناخات صحية تصاعدت فيها أعداد المصابين بالوباء، حيث سجلت العقبة (السبت الماضي) إصابات تجاوزت (5) أضعاف نسبة الإصابات بعمان، وفيما يفترض أن تتوجه السياسات الرسمية لتوسيع انفتاح القطاعات ووضع ما يلزم من احتياطات للتعامل مع مرحلة “التعافي” وضمان استقرار عدد الإصابات، لم تنتبه الحكومة إلى أن الصمت عن هذه الاختراقات وتمريرها سيفتح المجال لانتكاسة جديدة، ليس فقط بسبب احتمال دخول موجة رابعة، وإنما بسبب ولادة قناعة لدى الناس بعدم الالتزام، وعدم الاكتراث أيضا. صحيح أن ما حدث جرح مصداقية الحكومة، وتسبب بتراجع ثقة الناس بها، وهذه- بالطبع – خسارة كبيرة كان يمكن تجنبها بقليل من الحزم، لكن الصحيح أيضا أن قائمة الخاسرين تجاوزت الحكومة إلى الناس الذين دفعوا أصلا ضريبة الوباء من أعمار أبنائهم (الوفيات بلغ عددها نحو 11 ألفا حتى الآن)، ومن جيوبهم ومستوى معيشتهم وفرص عملهم، وهم سيدفعون أكثر إذا ما انتشر الوباء وأدى إلى إغلاقات جديدة.
الخاسر الثالث هو “العدالة” التي تعرضت لنكبة أخرى، حيث مواطن يضبط بجريمة مخالفة أوامر الدفاع فيحاسب، وآخر يرقص في الحفلات بلا كمامة ولا تباعد فلا يحاسبه أحد، وحيث شركات تنظم حفلات دون أن تلتزم “بالبروتوكول” الصحي، ونقابات تمنع من إجراء انتخاباتها بحجة الخوف على السلامة العامة، سؤال العدالة الغائبة ما زال معلقا للأسف ولم يجب عنه أحد.
أما الخاسر الرابع فهو المزاج الديني والاجتماعي المعتدل والمحافظ الذي يتسم به المجتمع الأردني، هذا الذي أحس “بالإهانة” حين انحازات الحكومة لمزاج آخر استثنته من بلاغاتها، في حين تشددت معه ومنعت أصحابه من إقامة مناسباتهم، وألزمتهم بالخضوع لأوامر الدفاع تحت طائلة المسؤولية القانونية.
يبقى الخاسر الأخير، وهو قانون الدفاع الذي بدأ العمل به اعتبارا من 17/3/2020، وما زال ساريا حتى الآن، هذا القانون الذي عطل عمل السلطات الثلاثة وحصر القرار بيد شخص واحد (رئيس الوزراء)، أصبح بحكم المنتهي، أخلاقيا على الأقل، ليس لأنه استنفد الأغراض والأسباب الموجبة لإصداره، وإنما لأن المسؤولين عن تنفيذه أفرغوه من سلطته ومضمونه، وأسقطوا حاكميته حين سمحوا لفئات دون أخرى من المواطنين بتجاوزه، فأفقدوا الناس احترامهم له والتزامهم بأوامره.