من المفارقات في الأردن، ان الكل یعترض على التمویل الأجنبي، لمراكز البحث والدراسات ومؤسسات المجتمع المدني، لكن الكل یقبل التمویل الأجنبي للحكومات، والخزینة، ولدفع الرواتب، على شكل منح وقروض.
یبدو الامر طبیعیا، من باب الاتھام التقلیدي لمؤسسات المجتمع المدني، بكونھا قد تنفذ اجندات مریبة او مشبوھة، وھذا اتھام تقلیدي، تتم إثارتھ دوما، في سیاقات التحریض على التمویل الأجنبي، واتھامھ أیضا بكونھ ینفذ اجندات محددة سیاسیا، او اقتصادیا، او اجتماعیا، او حتى في مجال جمع المعلومات.
لكن ھذه حالة من الانفصام، لأن الكل یتعامى عن كون التمویل الأجنبي، للحكومات لدینا، مرتبطا أیضا، بأجندات دولیة، اذ یستحیل أیضا، دفع المال من خزائن دول، لدولة ثانیة، دون اھداف او غایات للدولة الممولة.
ربما یأتي من یقول ان الحكومات مؤتمنة، اذ انھا لا تعرض مصالح البلاد والعباد الى خطر، مقابل التمویل الأجنبي للخزینة، فیما التمویل الأجنبي، لمؤسسات المجتمع المدني، او مراكز البحث والدراسات، قد یؤدي الى تنفیذ اجندات مشبوھة، تتعارض مع الأھداف الوطنیة، وغیر ذلك، وھذا بصراحة مجرد كلام عاطفي، ینطلي على السذج.
كل طرف یدفع مالا لحكومة او مؤسسة مجتمع مدني، لا یدفعھ خالصا لوجھ الله، بل مقابل اھداف محددة، وبھذا المعنى تتساوى الحكومات لدینا، مع مؤسسات المجتمع المدني، ھذا فوق ان حالات كثیرة من التمویل الأجنبي، للحكومات لدینا، أدت الى تنفیذ اجندات او تكریس اتجاھات مرفوضة شعبیا، على ید ھذه الحكومات، مقابل التمویل، ولیس آخر ھذه الحالات، تمویل وجود الاشقاء السوریین في الأردن، تحت عنوان انساني، فیما ھو یكرس لجوء ھؤلاء، وفصلھم عن بلدھم الأم، لغایات الضغط على دمشق الرسمیة.
نحن نعاني من النفاق، ولیس ادل على ذلك، من كثرة الشاتمین للولایات المتحدة الأمیركیة، فیما رواتب كثیرة، أساسھا المنح الأمیركیة، ونشتم دولا عربیة، فیما رواتب كثرة تأتي من قروض ومنح ھؤلاء، ونشتم الحكومات ونحض على المعیار الدیني، فیما راتب الذي یشتم جذره قروض ربویة للدولة، فتتركنا نشتم الربا لیل نھار، لكنھا تدفع الرواتب من قروض ربویة.
منذ اكثر من عشرین سنة، ونحن نتحدث عن الاجندات المشبوھة، لمؤسسات مجتمع مدني، لكن لا احد لدیھ قدرة على اتخاذ قرار ضدھا، والسبب في ذلك بسیط، ولا یتم إعلانھ، ویرتبط بكون ھذه المؤسسات مرتبطة بمؤسسات ممولة او مانحة، لھا تأثیرھا في العالم، ولھا كلمتھا في عواصم كبرى، والأردن لا یرید ان یستثیر ھذه الدول، ولا یرید ان یدخل في مواجھة مع ھذه المؤسسات الكبرى، كون تقاریرھا مؤثرة دولیا، اذا صدرت بشكل سلبي.
لیس من حل لھذا الملف، سوى ان تتطلع الدولة على اعمال ونشاطات مؤسسات المجتمع المدني التي یتم تمویلھا من الخارج، بشكل توافقي مع ھذه المؤسسات، اذ إن المشكلة لیست في مبدأ التمویل الأجنبي، ما دامت الحكومة تتلقى أیضا التمویل الأجنبي، لكن المشكلة في اجندات بعض مؤسسات المجتمع المدني، وھنا یمكن تعزیز التواصل، من باب الاطلاع على ما تفعلھ ھذه المؤسسات، والتفرقة بین المؤسسة التي تمارس نشاطا إیجابیا، وتلك التي تمارس نشاطا سلبیا، او انھا مجرد واجھة لجھات مریبة.
مناسبة كل ھذا الكلام، اننا كل یومین، نفتح ملف التمویل الأجنبي، لمؤسسات المجتمع المدني، بطریقة تقدم العاملین فیھا وكأنھم جواسیس یخترقون الأردن، وھذا الامر لا یمكن تعمیمھ أبدا، فیما مبدأ التمویل الأجنبي، تمارسھ الحكومات، أیضا، وندر ان نرى تمویلا اجنبیا لجھة رسمیة في الأردن دون شروط، او مطالب او اجندات معلنة او غیر معلنة، وبھذا المعنى قد تتساوى الحكومات لدینا، مع مؤسسات المجتمع المدني، في وقوف الجمیع، في طابور البحث عن تمویل اجنبي.
الخلاصة تقول ان الھشاشة والضعف لا تأتي وحیدة، بل تجلب معھا قضایا كثیرة، اقلھا الخضوع لشروط التمویل الأجنبي، سواء كان موجھا لحكومة او لمؤسسة مجتمع مدني، فیما ادعاء طرف على الآخر، بكونھ بلا عفة وطنیة، مجرد وھم یتم الاستثمار فیھ.