الخميس، 30-04-2020
03:09 م
عندما فتحتُ عينيّ في «كامب» شركة الـ (IPC) في الإجفور، تلفتُ حولي طويلا، لم أجد حسن سليمان الداودية.
لم أجد والدي حسن- ابو علي الطفيلي الطويل الأسمر النحيل، الذي كان يرسل من الإجفور الى عمان كل شهر، على ظهر باص بغداد -الإجفور-المفرق-الزرقاء- عمان، «خَسَفَ» التمر وتنَكات «الودك» والسمن وأكياس الطحين، إلى أقاربه في الطفيلة.
لم أجد حَسَناً، لكنني وجدت نفسي محاطا بسور فولاذي من الحنان والرِّفق والعناية. لقد عوضني الله بهم عن والدي الغائب الغالي.
كانت في الساحة أمّي جظّة، السيدة السميراء الوافية الباسلة، التي ذادت عني دون توقف ولا هوادة حتى غابت وانقطع منها النّفَس. وكان حاضرا عمي جعفر، أحد ملائكة الأرض واطهارها وأخيارها. وكان يملأ عليّ المكان، جدي مزعل مشري آل خطاب الخوالدة، الرجل الكثير، المفرط الحكمة والحنان والسخاء. وجدتي فضيّة عبد الغني، الاميرة الآمرة الضئيلة البنية، الشديدة الحضور والمِراس والهيبة. وكان هناك في ساحة الإجفور اخوالي ابراهيم ومشري وعبد الحليم. وخالاتي حليمة وهدية وسامية.
ترسانة من العناية الإلهية أحاطتني ودللتني وحمتني.
عندما توقفت أعمال شركة ال (IPC)، انتقل جدي وعمي إلى المفرق في أواخر الخمسينيات.
و من هنا كانت البداية. خروج كامل من النعيم أشبه بالطرد. وانكشاف على الضنك. وانهيار كامل لعالمي الوردي العطري.
تحديات صلبة متماسكة، جَبَهَت الفتى اليافع الذي كان عليه ان يواجه ويحل سؤال: ما العمل؟!
وجدتُ الحلَّ.
كان عليّ ان أصبح رجلا رشيدا صلبا شديدا.
وهكذا شمّرت عن ذراعي الغضّين. فقد كان علي أن اعمل بلا توقف ولا راحة، كي احصل على ابسط حاجاتي الأساسية: حذاء، بنطلون كاكي، دفاتر واقلام، وكرة قدم ان تمكنا انا وزملائي من جمع ثمنها.
لم يكن الكفاح من اجل البقاء محصورا بي. كان كل أبناء جيلي صلبين مكافحين. كان كل أبناء شعبنا عصاميين، يعملون في المعامل والورش والحقول وميادين العرق والعطاء.
عملت في «النافعة» وقمنا برصف جزء من طريق المفرق - المنشية على الطريقة الإنجليزية مع عدد شبان المفرق:
محمود ابراهيم كساب. توفيق هلال النمري. عبدالمهدي علي التميمي. سرحان ذيب النمري. علي خلف الحمود. خالد جدوع. محمد خالد الرواد. كمال موسى شحاتيت. ميشيل ثلجي النمري والياس القسيس.
اشتغلت في كسارات عيسى سليمان النبر الواقعة على بعد 7 كيلومترات غرب المفرق، كنا نمشيها ذهابا وإيابا، فجرا وغروبا. وعملت في دك الطوب بمعمل سليمان النبر، الواقع في الشارع الرئيسي بمنتصف البلدة.
لا شقاء و لا تعب ولا هلاك، يعادل التعب والعناء الذي في العمل بالكسارات و في دك الطوب. تلك اعمال شاقة ينوء بها الرجال.
كانت جارتنا القابلة لوسي، أم فيكتور وهيلين النشيوات، واحدة من الواحات الوارفة الندية التي مدت ظلها عليّ، في الزقاق الذي جمع خيرة الرجال والنساء، الذين يمكن أن يتعرف عليهم الإنسان.
دار محمد هاشم المغربي ابو علي وهشام وخالد ويوسف. ودار فارع النهار الشواقفة ابو دواس. ودار احمد عقيل الدويري ابو فراس. ودار نايل سلامة حجازي ابو احمد ومنصور. ودار الاستاذ الداغستاني ابو علاء وصلاح. ودار علي الشلبي. ودار احمد ومحمود السخني. ودار عطا قويدر ابو سعيد وأسعد أبرز حارس مرمى عرفته ملاعب كرة القدم في الشمال.
كانت قاعدة المفرق الجوية البريطانية متصلة ومتفاعلة مع أهالي المدينة في مختلف المجالات: كرة القدم و العروض الجوية والقمار و البارات و السينما، و كان ابرز لاعبي كرة القدم الانجليز في تلك القاعدة الجوية، جفري و لفزي و ستيف و بوب، ضيوفا دائمين على منازل اهل المفرق الذين عرفوهم في نزالات كرة القدم الاسبوعية مع لاعبي نادي الصحراء المرعبين:
سبع جدوع و فايز عودة والأخوين فيليب وحبيب واحمد التكروري والأخوين مشري وعبد الحليم الخوالدة وشوقي حمارنة ومحمد الشوشي ومحمد العجلوني ومحمد القهوجي وسعيد حامد وجمال ماهر واحمد هويل كريشان وصلاح شفيق.
كان موسى فريح السهاونة اول حكم عرفته المفرق. وكان التفوق في معظم المواجهات، لفريق نادي الصحراء الرهيب.
خففت عني عون الصديق عبد المهدي التميمي، شريكي في التذكر والتدقيق والمراجعة، عناء التنقيب والاتصالات والكتابة اليومية.
وخففت عني في مراجعة الأسماء والأبحاث والتواريخ، حفاوتكم الكريمة بهذه الذكريات- السرديات، التي هي مقطع عرضي لسردية كل واحد منا، هي سردية الناس في بلادنا الجميلة.
وأتطلع إلى ان أتلقى تصويبات وإضافات وتصحيحات وتعديلات. علما ان هذه السردية ليست مادة وثائقية، لكن بإمكان الموثقين المختصين ان يقتبسوا منها دون حتى الإحالة إلى المصدر !