الثلاثاء 2024-11-05 07:09 ص

ذكريات (21)

03:50 م
تصادف اليوم ذكرى نكبة العرب الأولى التي وقعت في الخامس عشر من أيار 1948. تلك النكبة الكبرى التي ستظل اسبابها وآثارها ومخلفاتها وضحاياها وشهداؤها ماثلة أبد الدهر.


كان متوقعا ان تؤدي تلك النكبة إلى سلسلة من الثورات الحارقة الجارفة الشاملة في الوطن العربي، لولا تطويقها بسلسلة من الانقلابات الاستباقية، في عدد من دول الوطن العربي، أخذت عدة أسماء من بينها اسم "الضباط الأحرار" في مصر وسوريا والعراق والسودان وليبيا.

قادت "ثورات" الضباط الأحرار إلى انشاء أنظمة حكم بوليسية، قادت الأمة إلى نكبة أكثر عمقا وشمولا واتساعا، من النكبة التي أعلنوا انهم ثاروا احتجاجا عليها، تمثلت في نكبة العرب الثانية التي قُيّض لي حضورها في المفرق في الخامس من حزيران سنة 1967.

كنت في اول 4 أيام من الإجازة الصيفية الأولى، عائدا من الشوبك، حيث كنت اعمل معلما في مدارسها، عندما اندلعت الحرب بانهمار قذائف طائرات الفوتور ومقاتلات الميراج الإسرائيلية على قواعد الطيران المصرية والسورية وعلى قاعدة المفرق الجوية.

انجلى اليوم الأول من الحرب عن تدمير طائرات العرب الحربية التي ذُبحت كقطعان الأغنام على الأرض. 

وسرعان ما عمّ الأمةَ حزنُ المياتم الأسود ومادت الأرض بجيلنا وضاقت وأصابنا عماء وذهول وإحباط ومرارة، ما تزال تلفنا إلى اليوم.

كان جرحنا غائرا داميا، فقد تهيأنا لتحرير ما احتل من بلادنا فلسطين، فإذا بإسرائيل تهزمنا في حرب خاطفة استمرت ستة أيام فقط، وفي واقع الحال، وكما بينت الوثائق، انكسر العرب من اليوم الأول الذي سيطرت فيه طائرات سلاح الجو الإسرائيلي على الأجواء العربية بالمطلق.

تمكن طيران العدو من تدمير 400 طائرة عربية، 340 طائرة منها دمرها وهي جاثمة جاثية على الأرض مقابل تدمير 19 طائرة إسرائيلية فقط.

فقدنا الثقة بالزعامات الثورية ذات الجرس العالي، "خَفَش" محبوبنا جمال عبد الناصر وأصبح اقل هديرا وتهديدا ووعيدا. ولم نعد نستمع لإذاعة صوت العرب، واصبحنا نقرأ مقالة محمد حسنين هيكل، افيوننا الاسبوعي، بعيون الريبة والشك.

وارتفعت بدلا من اصوات منظري الهزيمة، أصوات مثقفي اليسار الذين اصبحوا منارات المرحلة: فؤاد زكريا واحمد زكي وسهيل إدريس وصادق جلال العظم وغسان كنفاني وحسين مروّة وصلاح عيسى واحمد بهاء الدين ولطفي الخولي وأمل دنقل ورفعت السعيد وعبد الرحمن بدوي وفتحي غانم واحمد فؤاد نجم. 

وطلع شعراء المقاومة وأدباؤها من اخر بقعة بمكن ان تطلع منها المقاومة، الأرض المحتلة.

سطعت أسماء سميح القاسم ومحمود درويش وتوفيق زيّاد وإميل حبيبي، الذين امدونا بدفقة عزم في التوقيت الحاسم الضروري. 

لقد شكلت الثقافة، كما ظلت دائما، رافعة الأمة ومصابيحها الكاشفة في الظروف الحالكة.

تتميز الشوبك حيث عملت سنتي الدراسية الأولى، بالعدل والتوازن والإنصاف، فهي تعوّض شقاءَ شتائها القارس الرهيب، بربيع فوّاح باذخ خلّاب، لا يُضاهى، يكشف عن رحابة وفرادة الشوبك.

اغدقت عليّ الشوبك ضوع وعبقَ خضرتها الزاهية، التي تعوض كل معاناة الشتاء القاسي وظلمته وكآبته.

عاينت في الشوبك أول وأجمل ربيع حقيقي مرّ عليّ في حياتي، وانا لمّا ازل في التاسعة عشرة من العمر، الذي تعتبره الأمهات، في كل العالم، سنّ طفولة وحضانة ورعاية. 

لم ترَ عيناي ربيعا كهذا من قبل. حيث يطاول العشبُ البري، قامتي ويوشك "سَبَلُ" القمح، الجانحُ إلى الزرقة، أن يصبح موجا وان يصبح حفيفه موسيقى رائقة تتغلغل في الروح.

أغرقنا اهالي الطلاب بالحليب وبالبيض وبأكوام الزبدة. 

قال زميلي محمد الملكاوي: يا صاحبي لا يستجيب الأهالي لمناشداتنا أن يتوقفوا عن إحضار الزبدة التي تحتاج إلى ثلاجة نحفظها فيها !

وأضاف: سنغلي الزبدة ونحولها إلى سمن بلدي نحمله معنا حين عودتنا إلى أهالينا. وهو ما صار.

عدت إلى أهلي في المفرق، وحطام حزيران المادي والنفسي يملأ الأفق. 

بحثت عن فتاتي فوجدتها قد رحلت إلى الزرقاء، ذهبت إلى الزرقاء وبحثت دون جدوى عن صبية في أول التفتح وفي أول الخفر. كانت حين تلامس يدُها يدي، تضرب جسميَ صاعقةٌ ويرجّني زلزال. 

كانت في عطلتها الصيفية. أصابتني فجيعة، انتظرتُ فتاتي، ما يئست من توقعي أن تبادر وان تعود إلى "مكاننا" الذي يقع خلف منزلينا المتجاورين في حي المعانية، غرب سكة الحديد. كتبت لها رسالة تطفح بالأمل والإصرار.

كنت أمارس فعل الكتابة من خلال رسائل حب عذري طويلة مثقلة بالعواطف والهوى والعذوبة، تهطل منها الرقّة والوجد والصبابة.

كانت الحياة السياسية في المفرق في أواخر الخمسينيات ومطلع الستينات، ناضجة فوّارة حيوية، وكانت الفتيات مشاركات في توزيع المنشورات وفي المظاهرات وفي حمل اليافطات والهتافات. 

نشأنا معا. وعندما أصبحتُ في الصف الأول الثانوي، تباهت أمام صديقاتها وقالت: أنا ما بحب إعدادي، أنا بحب ثانوي! 

وعندما أصبحتُ معلما، مسّها الزهوُ والفرح وراودتها الأحلام الوردية الزاهية الجميلة، وكانت الخيول البيضاء تركض خببا في عالمها، ورهن إشارتها.

هكذا كتبت لي في عدة رسائل وجدتها في المكان السري المخصص لبوحنا. 

انقضت العطلة الصيفية سريعا، عدت إلى الشوبك، تقرر نقلي معلما منفردا إلى مدرسة بير الدباغات لأحلّ محل زميلي المعلم محمد الملكاوي الذي نُقل إلى محافظة اربد. 

والدباغات قرية تربض على بوابة غابة ربانية هائلة وتقع على الطريق الرئيسي بين الشوبك ووادي موسى.

لقد أصبح بوسعي أن اركب سيارة عابرة وان ازور البتراء التي أدمنت على زيارتها على الخيل من قرية "بير ابو العلق" حيث كنت معلما منفردا.

تحسنت الأوضاع كثيرا، وخفّت حدّة الغربة الثقيلة التي عانيت منها وأنا ما أزال في أول خطاي. 

قال لي عدنان خليل خطاب، ممرض قرية بير خداد، عندما زارني بصحبة معلمي القرى المجاورة: والله يا محمد لو ربطوا قرودا مكانك في بير أبو العلق لقطّعت جنازيرها وهربت !! 

كان المعلمون غير المنفردين من طبقة أرقى !! وكانوا يطلقون على المعلم المنفرد لقب "المعلم المنقرد".

انتهى الفصل الصعب الأول من معاناتي. فانا هنا في بير الدباغات، "حاضرة" المنطقة التي تتوسط عدة قرى هي بير أبو العلق وحوالة وبير خداد والشمّاخ.

و تتكون مدرستها، كعادة المدارس تلك الأيام، من غرفتين، واحدة للتدريس والأخرى للمعلم المنفرد.

وهكذا أصبحت أرى صيادين وحطابين وعابرين يستعدون للشتاء القارس القادم وهم يقومون بتحطيب الشجيرات الآيلة إلى السقوط، والجميل أنني نادرا ما رأيت حطّابا يتجاوز على الشجيرات المعافاة.

تفرغت للطبيعة وللقراءة المكثفة التي تركزت على الدراسات السياسية والعسكرية ومذكرات كبار القادة في التاريخ وعلى المجلات السياسية والثقافية التقدمية المصرية واللبنانية كالآداب والطليعة والفكر المعاصر والمجلة، في محاولة لفهم ما يجري في العالم. 

كفى. 

لقد آن أوان الخروج من القراءة في السياسة والتفجع والتوجع، إلى ولوج عالم السياسة المحفوف بالخطر.
gnews

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة