بداية ينبغي التوضيح أن اعتبارات داخلية صرفة هي التي وقفت خلف رسالة جلالة الملك لمدير المخابرات العامة، ولا علاقة للتطورات الخارجية بمضمونها أو توقيتها. فعلى العكس من ذلك تماما؛ المتغيرات الدولية والإقليمية ونوعية التحديات الأمنية المستجدة، تستدعي من أجهزة الاستخبارات التفرغ لمواجهة تحديات جديدة لا يمكن التغلب عليها إلا بالاحتراف المهني وتطوير قدرات جمع المعلومات، وتحليل البيانات، وتوظيف التكنولوجيا على نحو متقدم.
بهذا المعنى، الرسالة الملكية لا تنطوي على أي تحجيم لدور دائرة المخابرات العامة أو إضعاف لمكانتها، بل تعيد ترسيم دورها في نطاق اختصاصاتها الأساسية، والتي اضطرت إلى توسيعها بفعل ظروف خارجية وداخلية استثنائية عاشتها بلادنا، كانت فيها مؤسسات الدولة المعنية أقل قدرة وكفاءة على التعامل معها، فحملت “الدائرة” المسؤولية عنها بكفاءة واقتدار.
والرسالة ليست وليدة لحظتها، إنما محصلة نقاش هادئ وعميق بدأ في مراكز صناعة القرار بالتزامن مع دخول المملكة مئويتها الثانية. يمكن القول هنا إننا أمام مراجعات ملكية، طالما حرصت على إجرائها مؤسسة العرش لمواكبة المتغيرات، لتحديث عمل مؤسسات الدولة والاستجابة لضرورات الإصلاح والتطوير، وسيكون لدينا في المرحلة المقبلة المزيد من الخطوات ذات الدلالة على أكثر من صعيد، خاصة في ميدان الإصلاح السياسي.
والرسالة الملكية أيضا وإن كانت موجهة لمدير المخابرات العامة، فهي قبل ذلك رسالة لكل من يهمه الأمر من قيادات الدولة في مختلف السلطات والمؤسسات وعلى مختلف المستويات، لينهضوا بأدوارهم ومسؤولياتهم، ويتوقفوا عن اللجوء للمخابرات العامة في كل كبيرة وصغيرة لطلب المساعدة. ولهذا السبب حرص جلالة الملك على جعلها علنية مع أن بإمكانه الاكتفاء بتوجيه داخلي ضمن تقليد “سري ومكتوم”.
وقد جاءت الرسالة في ظل حكومة جديدة، أعلن رئيسها خلال مناقشات الثقة في البرلمان، أن حكومته لن تختبئ خلف أي جهة، ولن تسمح لأي طرف أن يتقدم عليها باعتبارها حكومة صاحبة الولاية الدستورية، تستمد شرعيتها من ثقة الملك والبرلمان. والرسالة وعلى غير العادة لم يواكبها تغيير في هرم قيادة الجهاز الاستخباري الأكثر احترافية في العالم. لقد اعتدنا على توجيه الملك مثل هذه الرسائل عند تعيين مدير جديد للمخابرات العامة، لكن هذه المرة جلالته يجدد ثقته بقيادة الجهاز ويكلفها بإنجاز المرحلة الثانية من التحديث والتطوير بعد إنجاز المرحلة الأولى بنجاح واقتدار.
ثمة عدد من المسؤوليات والاختصاصات، أشارت إليها الرسالة الملكية، يمكن للدوائر المعنية في الدولة أن تتولاها على الفور كتلك المتعلقة بغسيل الأموال ومكافحة الفساد، وتسهيل عمل القطاعات الاستثمارية والاقتصادية، لكن في مساحة السياسة والشأن الوطني الداخلي، هناك حاجة لخطة زمنية متدرجة، قد تستغرق بضع سنوات قبل أن تتمكن مؤسسات الدولة من الاعتماد على نفسها، والاستغناء عن “رعاية” المخابرات.
نحن هنا بصدد إرث طويل من العلاقات المتشابكة، وواقع داخلي تداخل فيه الأمني مع السياسي على نحو يصعب تفكيكه، بدون مراجعات تشريعية وقانونية، مثلما يحتاج الأمر لصفوف من القيادات السياسية في مواقع صناعة القرار، تملك الرؤية والقدرة على تحمل المسؤوليات. ولذلك تحتاج البلاد وبسرعة لترتيبات في الصفوف الأمامية للبدء في عملية التكيف مع المتغيرات، حتى لا نواجه حالة من الفراغ والفوضى ترتد سلبا على أداء المؤسسات.