الخميس، 02-01-2020
11:53 ص
المشاعر الأكثر إيلاما، في هذه الدنيا، أن ندخل عاما جديدا بلا القدس، دون ان ننسى أخواتها، من يافا وحيفا، وصولا الى بقية المدن الفلسطينية التي تمت سرقتها جهارا نهارا.
ربما لو عاد الزمن بكثيرين لفضلوا ان يموتوا في القدس، على ان يهاجروا منها، او من مدن أخرى، لكنها لحظات فاصلة لا تتكرر بين هؤلاء، اذ يحدثك كبار السن عن سبب الهجرة، فيحكون لك ان الفلسطينيين كانوا بلا سلاح، وان المذابح التي ارتكبت دفعت الناس للخروج، تحت عنوان يقول انها عدة أيام فقط، فيما ثبت انها عشرات السنين.
بعض العرب يتبنون الرواية الإسرائيلية، او يتأثرون بها، او يكيدون لشقيقهم الفلسطيني، فيقولون ان الفلسطينيين جبناء، باعوا ارضهم لليهود، وفروا عند اول معركة، وحين يتحدث بعض العرب بهذا المنطق تشعر بحجم التضليل، او شعورهم بالعبء من هكذا قضية، فيرمون كلفتها على أصحابها، ويتعامون عن الغريزة الإنسانية، التي تقوم على حماية الانسان لنفسه، وقد رأينا كيف هاجر العراقي والسوري، وغيرهما، وهما في زمن يسود فيه التعليم، وينتشر فيه السلاح لحماية النفس، ويتوفر المال باليد، لكن الولد والعرض والنفس، لا يجعلون لك من خيارات سوى الهجرة.
زرت القدس مرتين في حياتي، مرة وحيدا العام 1995 ورأيت بيت جدي القديم المكون من غرفتين من الحجر، مع قباب قديمة، وقد أغلق البيت وغبرته سنين، والتقطت صورة لي مع البيت بعين مستشرقة، كنت سائحا في تلك اللحظة، ولم أدرك فداحة الصورة الا بعد سنوات طويلة، لقطة مهينة حين تأتي سائحا، وتقف امام الباب الخشبي الموصد، فلا يفتح، ولا تفتحه، ولا تعرف أين مفتاحه أيضا، والثانية العام 1999 وكنت صحفيا مرافقا لوفد من نواب البرلمان، وذهبنا معا وصلينا في المسجد الأقصى، وبقيت مرتبطا بأعضاء الوفد، فلم أر بيت جدي الموصد آنذاك، ولا رأيت أحدا من سلالة الدم، وكنت صحفيا سائحا أيضا هذه المرة، بعد ان تم تطويع ارواحنا لنكون سياحا عابرين للطرقات ؟.
على سيرة سلالة الدم، يأتيك المقدسيون من كبار العمر، ليحكوا لك عن شهداء فلسطينيين وعرب حاربوا واستشهدوا في القدس، بعضهم يحكي لك قصة جند من الجيش الأردني، الذين يعرفونهم حق المعرفة وكانوا يمالحونهم في بيوتهم، وآخر يحكي لك عن شهيد من الجيش استشهد وسال دمه على حجارة القدس العتيقة.
ما من مدينة تحب الأردن في فلسطين، كما القدس، ربما لأن أهلها اعتادوا على اهل الأردن، الأقرب اليهم، في زيارات نهاية الأسبوع، لصلاة الجمعة، قبل الاحتلال، او حتى لتقديس الحج، وهي عادة كانت شائعة في الأردن، إذ يذهب حجاج الأردن، بعد كل حج الى القدس، لزيارتها والصلاة في المسجد الأقصى، فيصير الحج مقدسا، ويقف ابناء بني صخر، او ابناء عشائر اربد او عجلون، او السلط والكرك، او أبناء العدوان وبني حسن وبني حميدة وغيرهم، في صفوف الصلاة في المسجد الأقصى، ثراء روحي صبغ المدينة بروح متسامحة، وهذا حال المدن المقدسة ، فأهلها يعرفون ان المدينة سماوية وليست لهم وحدهم، وهي مدينة تجمع ولا تفرق، توحد، ولا تميز، وتأبى الصغائر.
ليلة رأس السنة، مرت علي ساكنة، ربما ودون مبالغة كنت احصي خسائري الفردية في هذه الحياة، وخسائر أمة بأكملها، فأجدها كبيرة، وتتعاظم يوما بعد يوم، فماذا نقول عن أمة تموت بلا سبب، والموت يتوجب ان يكون منتجا، له غاية دنيوية، لكن تأملوا حالنا يموت الملايين ويتشرد الملايين في بلادنا الواحدة، من العراق الى سورية، وصولا الى ليبيا، وغيرها من دول لم تعد آمنة، فتسأل نفسك، لماذا يموتون، فلا قضية مقدسة يضحون بحياتهم لأجلها، فيما القضية الوحيدة المقدسة نسيها كثيرون، وباتت في الظلال، ولو انسابت انهار الدم والمال والسلاح هذه لأجل فلسطين، لتحررت سبع مرات متتاليات ؟.
عام جديد بلا القدس، وكل يوم يمر تبتعد وتغيب، فلا تشعر بالأسى الا على الذين رحلوا وانطفأت ارواحهم، لكن الهزيمة بقيت حية في عيونهم، حتى تصحو سلالات الدم في كل هذا المشرق، من غفوتها وغفلتها وغيابها القسري والاختياري، ويدركون ان الخسارة هنا لم تكن فردية، بل خسارة حلت في كل بيت مشرقي.