ما أن وصل رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري للإهداء في خاتمة مذكراته (الحقيقة بيضاء) التي اشهرها الاربعاء الماضي في المركز الثقافي الملكي بحضور وزراء ونواب وأعيان، ومسؤولين في الدولة، حتى تهدج صوته وفاضت عبراته وبدا متأثرا وهو يستذكر عمان ونابلس والقدس ووالدته وووالده وزوجه وعائلته، والاسرى وشهداء الاردن وفلسطين.
عندما سألته عن سر تهدج صوته في نهاية كلمته في احتفالية إشهار مذكراته أجاب، هل لي ألا أفعل وقد استذكرت والدتي ووالدي، نابلس وعمان، الشهداء والاسرى، ولهذا كان رد الحضور على هذا الصوت المتهدج بالتصفيق طويلا، والوقوف تحية وتكريما لشخص اراد دوما ان يكون مختلفا بالطرح والرؤية والرسالة، شخص لا يمكن الا ان نصنفه في خانة المدافعين عن الديمقراطية والدولة.
وجه المصري في ختام كلمته في حفل اشهار المذكرات بصوت متهدج كان واضحا للحضور، حتى كادت عبراته تنسكب، ودموعه تغلبه، تحية إجلال وإكبار لأسرى فلسطين الصامدين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وهم يسعون لإزالة الاحتلال ويرعبونه وهم يتسلحون بأظافرهم وبملعقة صدئة ليصبحوا أحراراً، وقرأ على الحضور الكبير ما كتب في إهداء المذكرات والذي ظهر في مقدمة الجزء الأول، فكان الاهداء لأرواحِ شهداءِ فلسطين والأردنّ، والقدسِ الشّريفِ، ونابلس وعمّان، وإلى أمّه وأبيه، وزوجه وابنائه.
“الحقيقة بيضاء” مذكرات تشبه صاحبها، وضع فيها المصري في جزأين خلاصة تجربته التي شارفت على الخمسين عاما، استعرض فيها مراحل شد وجذب، قحط وخصب، صعود ونزول، حكومة ونواب واعيان، كولسات ومراسلات، مواقف وعبر، دهاليز سياسة وانتخابات مجالس نيابية، لقاءات وحوارات، مواقف وتحرشات، اختزل فيها تجربة 50 عاما من العمل في السياسة، كان في كثير منها قريبا من صنع القرار، وفي احيان اخرى أبعد.
أوراق المذكرات حفلت ضمن صفحاتها بتجارب ومواقف بات يحق للرأي العام التعّرف على مفاصلها وتضمنت تقديما شفافا لنظرة الساسة وقت ذاك للأحداث والمواقف التي مرت بها الدولة والمنطقة بشكل عام، فالمذكرات فيها ما فيها من مواقف يستطيع القارئ ان يتعرف من خلالها على مساجلات الساسة في قضايا مفصلية، وبحسب رئيس الوزراء الاسبق عون الخصاونة الذي كان من بين من تحدث في حفل إشهار المذكرات “مليئة بالتجارب والعبر، وتروي حكاية رجل ولد لعائلة فلسطينية مرموقة قدر له أن يشغل في سن مبكرة الكثير من المناصب الدبلوماسية السياسية، وأن يتسلم أعلاها، ويشارك في صنع القرارات المهمة، وأن يكون شاهدا عليها، واتصف على الدوام بمصداقية عالية وترفع عن الصغائر وتغليب المصلحة العليا، مع نزاهة لا شك فيها، وتعفف عن المال العام”.
يطمح صاحب المذكرات ان تكون مذكراته التي اراد من خلالها ان يضع امام الباحثين والمتابعين والساسة حقيقة بيضاء دون تزويق او تلوين، شفافة دون رتوش واضحة كما هو يريدها وأرادها دوما وفق سيرته التاريخية، وهو يؤكد انه في كل ما كتب حرص ان تكون الحقيقة بيضاء، ويذهب للتوضيح ان صاحب المذكرات عندما يريد كشف سر ما عليه أن يوازن بين ما قد يراه الآخرون مصالح شخصية أو أسرية، وبين قول الحقيقة، كما أن ليس لكاتب المذكرات قولٌ بعد كتابة مذكراته.
خرجت مذكرات أبو نشأت للعلن، وباتت بين يدي الجميع، وحملت حقائق مختلفة، وأشارت لحقب زمنية بالغة الحساسية، وتناولت اسرارا يكشف عنها للمرة الاولى، وكما هي عادة المصري فقد اهتم بتفاصيل كل حقبة، وتناول مواقف الجميع، وهو الذي كان يسجل مذكراته بشكل يومي ويدون ملاحظاته حتى لا تخونه الذاكرة وحتى لا يكون سرد مذكراته يعتمد على ما يستذكر من احداث، فأخرج حقيقة بيضاء تشبه الرجل بكل تفاصيله.