يتوقف التقدم والازدهار في هذه المرحلة على الوعي الجمعي والشامل بتكنولوجيا المعنى والمعرفة التي تسود وتهيمن على العالم اليوم، وإن أحاط بأزمة كوفيد 19 صدمة كبرى أو «مؤامرة» فإنها الوعي الشامل بمتطلبات لحظة تحول كبرى في إدارة وتنظيم الحياة والمؤسسات والأعمال على نحو جديد، لقد كانت تحولات في ضخامتها تفوق قدرة معظم الناس على استيعابها وتقبلها فضلا عن الوعي بها، ولم يكن عمليا أو ناجحا تطبيقها أو إحلالها في الأعمال والأسواق والأفكار والثقافة والسلوك الاجتماعي وأسلوب الحياة من غير استيعاب شامل من قبل جميع الفئات والطبقات، ولعلها من المرات القليلة إن لم تكن الوحيدة في تاريخ الإنسانية التي يتطلب فيها تطبيق التكنولوجيا الجديدة وعيا جمعيا شاملا، ولم يعد يكفي الوعي النخبوي لتطبيقها وإنجاحها، ولكن الصدمة الأكثر غرابة في هذه المرحلة أن النخب والطبقات الأكاديمية والأكثر تعليما والمهن القيادية والنبيلة هي الأكثر مقاومة للتغيير، وليس المجتمعات، هكذا فإن تكنولوجيا المعنى تواجه قوى ومصالح وطبقات راسخة ومهيمنة ترفض الفرص الجديدة، ولم يكن خيار سوى التضحية بهذه المؤسسات والنخب والمعارف والصروح العلمية والأكاديمية والمؤسسية والتنظيمية والإرشادية برغم عراقتها وكلفتها الهائلة.
ثمة ذكاء اصطناعي يدخل حيز التطبيق هو ببساطة تحويل الوعي بالذات الإنسانية وفهمها إلى تكنولوجيا، لكن ذلك ينشئ متوالية من التفاعلات التكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية، فالآلة الذكية (الحاسوب والروبوت والطابعة الثلاثية الأبعاد..) بما هي محاكاة للإنسان في التفكير والتحليل، وربما لاحقاً الإدراك والتداعيات، تغير وعي الإنسان لذاته، ومن ثم وبطبيعة الحال، فإن الآلة نفسها سوف تتغير أو تنشأ أجيال جديدة منها تحاكي هذه التغيرات. وهكذا فإن الإنسان يغير في نفسه وفي وعيه وإدراكه كلّما تقدم في الذكاء الاصطناعي، على نحو لا نعود معه قادرين على التمييز (ربما) هل الآلة تغير في وعي الإنسان وإدراكه للمعنى والجدوى، أم أن الإنسان يستنسخ نفسه على نحو متطور ومتغير في آلات ذكية واعية؟ لكن من المؤكد أن الإنسان في مغامرته هذه يغيّر في ذاته على نحو سريع وعميق، والحال أن الإنسان يتطور ويتغير كثيراً، لكنه في هذه المرة قد يمضي بوعيه وقيمه إلى مرحلة جديدة مختلفة، إلى درجة أن المرحلة الحاضرة سوف تكون «الإنسان السابق»، ورغم ما في ذلك من صدمة عميقة لا نكاد نحتملها، فإنه يجب أن نتذكر أن الإنسان تغيّر كثيراً في وعيه وتقييمه للأفكار والمسائل، وعلى سبيل المثال فقد كان الرق متقبلاً لدى الفلاسفة والعلماء على مدى القرون، ولم يراجع الإنسان نفسه ويغيّر من موقفه من الرق حتى القرن الثامن عشر. وينبغي أن نذكّر أنفسنا أن إلغاء الرق تحول إلى فكرة إنسانية راسخة وعميقة بفضل المكائن والآلات الزراعية! وكذا قيم السلام وحقوق الإنسان والمساواة والتنوع والبيئة.. فإنها لم تكن بهذا الحضور والتأثير قبل مائة سنة، وكان تمجيد الحرب وقتل الأعداء فضيلة وبطولة، وصار الإنسان اليوم يتبرأ منها! ويمكن أن نتذكر في قيم الحياة اليومية والتنشئة والعمل كيف تحولت عادات وممارسات مثل ضرب الأطفال إلى جريمة بعدما كانت سائدة ومتقبلة. إننا نلاحظ اليوم كيف تكرست هذه القيم، لكننا لا نلاحظ إلا قليلاً علاقتها بالتطور التكنولوجي وما تبعه من تحولات اجتماعية وسياسية وثقافية.